التنمية الثقافية

التنمية الثقافية

مفهوم الثقافة:
أعطيت تعاريف وتحديدات عديدة ومختلفة لمفهوم الثقافة لدرجة أصبح معها من الصعب أن نقف على نوع من الإجماع على إعطاء تعريف شامل للثقافة نظراً لتطور مفهوم الثقافة في حد ذاته في إطار صيرورة اجتماعية ومهارات فردية متجددة، فالثقافة عند البعض مجموع السمات الحضارية التي اكتسبها الإنسان عبر حركياته؛ وعند البعض الآخر هي جميع أنماط العيش في الحياة. وعند آخرين هي هوية الفرد داخل الجماعة وكل ما يوجد في ذاكرة المجتمع([1]).

في إطار هذا الاختلاف في التعاريف، لا نرغب أن نزج بأنفسنا في متاهات هذه التحديدات وفي جلساتها النظرية والفلسفية، واختصارا للتحليل والتدقيق نتبنى التصور التالي نظراً لكونه يتلاءم مع المنظور السائد لمفهوم الثقافة في شكل عام، فهي "كل ما يتراكم من إضافات للطبيعة يبدعها الإنسان يتحول إلى تراث يضرب عمقاً في الذاكرة وفي العائلة وفي المطبخ وفي الفن وفي الأدب..الخ هو ما يشكل جوهر الثقافة عامة"([2]).


إن مفهوم الثقافة مفهوم معقد يرتبط بعدة مفاهيم أخرى كمفهوم الهوية ارتباطاً حميمياً أصبح فيه استعمال مفهوم الهوية الثقافية شائع الاستعمال في مختلف المجالات البحثية، باعتباره السمة المميزة لمجموعة معينة في مجتمع معين، مع إشارة إلى إشكالية أن الهوية يمكن أن تجمع بين ما هو كوني وما هو خصوصي.


في هذا السياق كذلك، يتم الربط بشكل عضوي بين الثقافة والجماعة، في إشارة إلى الاستعمال المكثف لمفهوم الجماعة الثقافية والتي تعني مجموعة من الأفراد يشتركون في المراجع الثقافية المكونة لهوية ثقافية موحدة، يريدون المحافظة عليها وتنميتها باعتبارها ضرورية لكرامتهم البشرية في نطاق احترام حق الإنسان"([3]).


فالثقافة في النهاية هي إنتاج متجدد وابتكار متنوع مرتبط بحياة الإنسان، بضرب في عمق الذاكرة ويتطلع إلى تحسين وتسهيل الوجود الإنساني فوق الأرض؛ من هنا فهي موضوع للتنمية وحق من حقوق الإنسان، ففي المادة 27 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تتضمن عدة حقوق تم التنصيص على:


أ- الحق في المشاركة في الحياة الثقافية؛


ب- الحق بالاستمتاع بالفنون؛


ج- الإسهام في التقدم العلمي والفوائد التي تنتج عنه.


ثم المادة 15 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، هذه المادة التي تشتمل على ما يلي: إقرار الحق في المشاركة في الحياة الثقافية، وفي التمتع بمنافع التقدم العلمي وتطبيقاته، وفي الانتفاع بحماية المصالح المادية والمعنوية الناجمة عن الإنتاج العلمي أو الأدبي أو الفني، واحترام الحرية التي هي شرط الإبداع واتخاذ جميع الإجراءات لضمان هذه الحقوق ومن بينها التعاون والتواصل الدولي في المجالين العلمي والثقافي.


ولضمان التنمية الثقافية والحق الثقافي كحقين من الحقوق الثقافية الثابتة في المرجعية الإنسانية نشير إلى أن تنمية هذا الحق وضمانه يمكن بلورته من خلال المحاور الأساسية التالية:


أ- الحق في المشاركة في السياسات الثقافية؛


ب- الحق في الإعلام؛


ج- الحق في التربية والتكوين؛


د- المشاركة في الحياة الثقافية.


إن ضمان الحق الثقافي في المجتمع وتنميته وتدعيمه في إطار من المشاركة الفعالة والمتجددة من قبل مختلف مؤسسات المجتمع المدني والأفراد، وكذا المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية، يعتبر اليوم في إطار مناخ العولمة من الأساسيات والأولويات التي يجب الانتباه إليها باستمرار، في إطار من الأجرأة، والتنفيذ العملي من خلال التوصات التالية:


I-
الوعي بمخاطر العولمة على الحقوق الثقافية وتنميتها:


-
يلزم تنمية الوعي بمخاطر انتشار القيم المعادية لحقوق الإنسان، كضرب قيم التضامن.


-
تعميق الوعي بمخاطر التنميط الثقافي على مستوى التفكير والسلوك والعادات والقيم.


-
الوعي بمخاطر الدعوة إلى نظرية ما يسمى بصراع الحضارات التي تدعو ضمنياً إلى تأكيد تفوق ثقافة معينة على ثقافات أخرى.


-
الحذر والوعي بتنامي شيوع ثقافة الاستهلاك والسوق.


-
الوعي بمخاطر الدعوة إلى ثقافة هزيلة في خدمة رأسمال الاقتصاد الرأسمالي العالمي.


-
الوعي بمخاطر وضع الثقافة في خدمة الاقتصاد.


-
الوعي بمخاطر تدمير الثقافات المحلية من خلال الاستلاب والهجرة وتهريب الآثار والتراث الثقافي المحلي.


II-
الانعكاسات الإيجابية على التنمية الثقافية في إطار العولمة:


-
الوعي بأهمية الإحساس بالمصير المشترك للإنسانية وضرورة التضامن في مواجهة الانعكاسات السلبية للعولمة على الحياة الثقافية.


-
تعميق الوعي بالاستفادة من التقدم العالمي والتكنولوجي لصالح الحق الثقافي وباقي حقوق الإنسان.


-
دعم هامش الاستفادة من المعلومات وتداولها بما يخدم الفكر الإنساني ويوسع دائرة التضامن بين الجماعات.


-
الاستفادة من الثورة المعلوماتية والاتصالات بما يخدم التنمية الثقافية والحق الثقافي في مواجهة كل تنميط واستلاب وإقصاء ثقافي خاص بالعولمة.


ففي إطار تصور شمولي وتكاملي للتنمية الثقافية يأخذ بعين الاعتبار التحولات الحضارية الكبرى وما عرفه الإنسان اليوم من أزمات ومشاكل، ويأخذ كذلك بالتفكير الجديد حول مفهوم التنمية ذاته في مختلف أبعادها، والذي أجبر الإنسانية تحت ضغط التكنولوجيات الحديثة على التحول من منطلق تقييمي فقط إلى منطق إبداعي أيضا يترك هامشا للخيال والاحتمال وتجاوز العقلانية المتكلسة بغرض الأخذ بمفهوم التنوع المبدع في جميع المجالات. ففي ظل هذه الطفرة المعرفية الجديدة، أصبحت الضرورة ملحة إلى اعتماد إستراتيجية تنموية ثقافية جديدة تقوم على الإجراءات العملية التالية:


1-
على المستوى المؤسسي:


-
ضرورة اعتماد مؤسسات بحثية تهتم بالبحوث والدراسات النظرية والتطبيقية وتساهم في وضع الخطط والبرامج بغرض التنمية الثقافية في مختلف أبعادها الفنية والترفيهية والإبداعية الخ، مع تقديم تقارير دورية عنها.


-
ضرورة اعتماد مؤسسة أو جهاز للتوثيق الثقافي المتنوع.


-
ضرورة إحداث مرصد لغوي.


-
ضرورة اعتماد مركز إعلامي تواصلي يشارك فيه كل فعاليات المجتمع المدني.


2-
على مستوى مشاركة فعاليات المجتمع المدني:


-
التحسيس بأهمية التأكيد على حق تقرير المصير الثقافي؛


-
الوعي بأهمية ضرورة المشاركة في إعداد وتنفيذ السياسات الثقافية؛


-
إثارة الانتباه إلى الاهتمام بالأوضاع المادية والمعنوية للكتاب والفنانين والمسرحيين والمبدعين؛


-
التأكيد على المساهمة الفعلية في تنمية الثقافة؛


-
تدعيم الجمعيات الثقافية وإعطائها صفة المنفعة العامة؛


-
الدفاع عن الهوية المغربية المتعددة الأبعاد؛


-
العمل على دمقرطة الإعلام ونبذ كل البرامج الداعية إلى التمييز على أساس الدين أو المعتقد أو الانتماء الإقليمي أو الاجتماعي؛


-
التحسيس بأهمية سن تشريعات تهدف إلى حماية الإبداع والبحث العلمي والتكنولوجي؛


-
تشجيع جمعيات المجتمع المدني على الانخراط في التنمية الثقافية من خلال المساهمة في تنفيذ السياسات الثقافية عبر ما تنظمه من ندوات ومؤتمرات ولقاءات علمية الخ.


-
حث جميع الفعاليات الثقافية على الانخراط بشكل منظم في جمعيات المجتمع المدني المهتمة بالتنمية الثقافية.


III-
العناية بالتنمية الثقافية للأطفال:


-
التحسيس بأهمية التنشئة الثقافية للأطفال انطلاقاً من رياض الأطفال.


-
المساهمة الفعلية والهادفة في بلورة الأنشطة التربوية الخاصة بالأطفال انطلاقاً من وسائل تثقيف الأطفال كالعناية بمكتبات الأطفال، وإعداد كتَّاب للأطفال مع ما يتطلبه ذلك من دراية ومعرفة علمية بالأطفال، والمساهمة في العناية بالأغنيات الخاصة بالأطفال والمشاركة الفاعلة في بلورة محتويات الأعمال التلفزية والسينمائية والمسرحية الخاصة بالأطفال.


-
المساهمة الفعلية من قبل فعاليات المجتمع المدني المختلفة في إنتاج وتنمية ثقافة تلبي الحاجات النمائية والمناسبة لمتطلبات العصر في مختلف أبعاده الأدبية، والعلمية والتكنولوجية بالنسبة للمراهقين، وذلك تفادياً لمخاطر ثقافة العولمة في جوانبها السلبية.


-
التحسيس بأهمية الوعي بالمتطلبات والحاجيات الثقافية الخاصة بالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة كالأطفال الموهوبين والأطفال المعاقين على اختلاف درجات الإعاقة، تحسيس مؤسسات المجتمع المدني بضرورة الانخراط الفاعل في تنمية ثقافية فاعلة هدفها مساعدتهم على الإندماج في المجتمع.


-
ضرورة النظر إلى تربية الأطفال المعاقين بوصفها جزءاً من برنامج أوسع وأشمل يتصل برعاية الطفولة المبكرة بأشكالها المختلفة ويتم عبر مؤسسات عديدة ومتعاونة، ومن المهم في هذا الإطار القيام بجهود خاصة من أجل توعية الأسرة وإشراكها في تلك الرعاية المبكرة.


-
المساهمة الفاعلة في إنشاء مراكز ومؤسسات خاصة بالأطفال المعاقين في مرحلة رياض الأطفال.


-
المساهمة المكثفة من قبل فعاليات المجتمع المدني في تبني وإعداد برامج وقائية تعمل على الحد من معدلات الإعاقة كبرامج الإرشاد "الجيني" للآباء والأمهات المقبلين على الزواج، برنامج العناية بالأم الحامل، ولاسيما فيما يتعلق بالعمر المناسب للحمل، والجوانب الصحية، والتغذية والابتعاد عن العقاقير والأمراض والأشعة وغير ذلك مما قد يؤدي إلى بعض حالات الإعاقة.


-
الاهتمام بالأطفال "غير المتكيفين" (حركياً، سلوكياً، لغوياً، الخ) وذلك بعلاج حالاتهم بعد تشخيصها.


-
إلزامية التعاون الوثيق بين روضة الأطفال وبين الأسرة ومؤسسات المجتمع المختلفة، ولاسيما المؤسسات الثقافية ووسائل الاتصال، من أجل الكشف عن الموهبة والموهوبين والتعاون على تنمية الإبداع والمبدعين، منذ الصغر.


-
المساهمة في التنمية الثقافية من خلال تنظيم معارض للكتب الثقافية والصناعة التقليدية، والإبداعات الفنية (الرسم الموسيقى، الشعر، القصة...).


-
الاحتفال باليوم العالمي للتنمية الثقافية: 21 ماي من كل سنة.


-
الاحتفال باليوم العالمي للسلام: آخر ثلاثاء من سبتمبر.


-
دعم إنشاء مكتبات بمواقع مختلفة.


-
تشجيع السياحة الثقافية، وحوار الحضارات وتقارب الشعوب.


-
دعم وتجديد التراث الثقافي والحضاري بصفته ذاكرة الإنسان.


-
تقوية الإدارة الثقافية من خلال دراسات وتجارب دولية.


-
دعم قيم التنوع والاختلاف في الثقافة.


-
تقوية الهوية الثقافية ورصد بين الخصوصية والعالمية.


-
تشجيع التعايش الايجابي بين اللغات في ارتباط متين بالتنمية الثقافية.


-
دعم دورات تكوينية لقيادات العمل الثقافي والتربوي.


-
دراسة النظريات الثقافية المعاصرة ومحاولة الاستفادة منها في مجال التنمية الثقافية.


خلاصة:


إن المقاربة الشمولية المعمقة للتنمية الثقافية لن تتأتى إلا بالبحث العلمي في مختلف مجالات الثقافة وظواهرها، بشكل متواصل ومتجدد تبعاً للتغيرات والمستجدات المجتمعية. وإن هذه التنمية لا يمكن لها أن تتبلور وتتغير وتتجدد إلا عندما يتم وضع أهداف محددة قابلة للأجرأة والتنفيذ، تتظافر عبره مختلف فعاليات المجتمع الرسمي منها والمدني. فمن خلال عرضنا أعلاه نؤكد على أن مفهوم التنمية الثقافية تم تناوله كسيرورة متجددة تشمل مجالات الثقافة وظواهرها وتنوعها من خلال كل القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والشخصية الفردية والجماعية في أي مجتمع إنساني.


([1])
كتاب: جامعة التنمية وحقوق الإنسان، ص38.

([2])
محمد مصطفى القباج: التربية والثقافة في زمن العوملة، ص141.

([3])
جامعة التنمية وحقوق الإنسان، ص50.

Share this article :

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire