الذات ومفهـوم الـذات


الذات ومفهـوم الـذات

لقد بينت الدراسات والبحوث حول مفهوم الذات الأهمية الكبرى[1] التي يحتلها في بناء الشخصية من جهة، والأهمية البالغة في الدلالة على خصوصية الشخصية وما تتطلبه من معاينة وإرشاد وتوجيه وتعديل من جهة أخرى. إن مفهوم الذات يعتبر النواة التي تتمركز حولها دلالة وقيمة الشخص في حد ذاته، فكل خلل أو اضطراب في هذه النواة يعني المرض النفسي وما يتطلبه من إمكانية للعلاج والإرشاد. فنظرا لهذه الأهمية، اعتبر كارل روجروز-Carl Rogers الذات محور نظريته في العلاج والمعروفة "بالعلاج الممركز حول العميل" كما هو مبين في كتابيه الأكثر شهرة، وهما «Relation d'aide et psychotherapie»«Le développement de la personne»، فقبل الحديث بتفصيل عن هذا الموضوع يلزم في البداية التفريق بين الذات Self ومفهوم الذات Self- Concept .
الـــذات:
أصبح موضوع الذات من المفاهيم التي تمثل جزءا هاما في علم النفس وتفرد له نظريات خاصة. فالإنسان اليوم بحاجة إلى معرفة ذاته وأبعادها معرفة واعية حيث يستطيع أن يتكيف مع بيئته التي أصبحت بالغة التعقيد. والذات كما يرى أحد الباحثين هي «الفرد متمثلا في أناه أي لذاته»أما هيلجر Hilgard فيعرفها «بأنها صورة الإنسان عن نفسه» أما البورت Allport فيؤكد على أنها «هي القوة الموحدة لجميع عادات وسمات واتجاهات ومشاعر ونزعات الهو»، فالذات «هي الشعور والوعي بكينونة الفرد،وتنمو الذات وتنفصل تدريجيا عن المجال الإدراكي، وتتكون بنية الذات كنتيجة للتفاعل مع البيئة وتشمل الذات المدركة، والذات من تصور الآخرين والذات المثالية، وقد تمتص قيم الآخرين وتسعى إلى التوافق والثبات، وتنمو نتيجة للنضج والتعلم».[2]
مفهـوم الـذات:
اهتم الباحثون بمفهوم الذات بأشكال مختلفة حسب تخصص كل واحد منهم وحسب اهتماماته العلمية والعملية المختلفة، فالبعض اعتبره مركب من الأفكار والأحاسيس التي تكون وعي الإنسان لوجوده الفردي ومفهومه عنه، ويحتوي مفهوم الذات مظهرين: جسدي ونفسي، حيث تتكون صورة الذات الجسدية من مفاهيمالفرد المتعلقة بمظهره الجسمي وأهمية كل عضو من أعضاء جسمه فيما يتصل بسلوكه والانطباع الذي يكونه الآخرون عن هذه الأعضاء. أما مفهوم الذات النفسي فيتكون من مجموعة من الصفات السيكولوجية التي يصف فيها الفرد نفسه كالإخلاص والاستقلالية والعجز.
ففي هذا السياق الخاص بتحديد مفهوم الذات، يعتبر كولي cooley من الأوائل الذين تعرضوا لمفهوم الذات، حيث عرف الذات بأنها «ما يشار إليه الكلام الدارج بضمائر المتكلم كأنا الفاعلة وياء المتكلم وياء الملكية ونفسي»[3]، أما لابن وجرين Labenne and Green فقد عرفا مفهوم الذات بأنه «التقويم الكلي الذي يقوم به الفرد لمظهرهوأصوله وقدراته وإمكاناته واتجاهاته وانفعالاته التي تتكامل كقوة موجهة له في سلوكه»[4]. ويرى اينشتاين أنمفهوم الذات عبارة عن «نظرية كونها الفرد عن نفسه وهي بالتالي جزء من نظرية أوسع موجودة لديه عن كل خبراته وهو يستخدم هذه النظرة كنسق منظم لحل مشكلاته»[5]. ومن الباحثين العرب يعرف فرج عبد القادر طهمفهوم الذات بأنه «صورة الذات أو فكرة الشخص عن ذاته وما هي الصورة التي يكونها الفرد عن نفسه في ضؤ أهدافه وإمكانياته واتجاهه نحو هذه الصورة ومدى استثماره لها في علاقته بنفسه أو بالواقع»[6]، في حين يعرفه حامد زهران على أنه «تكوين معرفي منظم ومتعلم للمدركات الشعورية والتصورات والتقييمات الخاصة بالذات يبلوره الفرد ويعتبره تعريفا نفسيا لذاته»[7]، كما عرفه سلامة وعبد الغفار بأنه «تلك الأحكام والصفات التي يطلقها الفرد على نفسه».    
بعد هذا العرض الموجز لتعريفات بعض الباحثين لمفهوم الذات، يمكننا تبني التعريف التالي: إن مفهوم الذات تكوين معرفي مكتسب، منظم، وثابت نسبيا ومتداخل العناصر والمكونات حول الذات، يبنيه الفرد لاشعوريا ويعتبره محددا خاصا لذاته كفرد يوجد في تفاعل مع باقي أعضاء المجتمع.
بعض النظريات حول الذات :
أولا: بعض نظريات التحليل النفسي
1-    الذات عند فرويد.
قدم فرويد نظريته في التحليل النفسي وقد قسم الذات إلى ثلاثة عناصر كما وضحها في كتبه العديدة وبالأخص في: «Inhibition, symptômes, Angoisse, 1926».
أ) الذات الدنيا (ça) الهـو:
وهو عبارة عن تلك الطاقة التي تتضمن الدوافع الغريزية الفطرية الموروثة والتي تكون مخزونة في الكائن الحي لا شعوريا ولا تخضع لقيم ومعايير اجتماعية، وتكون أشبه بالدوافع الحيوانية أو البدائية. وقد قسم فرويد الدوافع التي تشملها هذه الذات إلى دافع نحو الحب ويتمثل فيما أسماه بغريزة الحياة والغريزة الجنسية،وهناك دافع العدوان والموت وأطلق عليه غريزة الموت. وغالبا ما تلجأ الذات إلى إشباع حاجاتها عن طريق الأحلام (أحلام اليقظة) عندما تعجز عن تحقيقها على أرض الواقع.
ب) الذات الوسطى (moi) أو الأنـاالوسطى:
وهي الجزء الشعوري من الشخصية، وهي تسعى للتوفيق بين مطالب الذات الدنيا البدائية  وبين قيم وأخلاقيات الذات العلياوتتكون هذه الذات نتيجة العقبات التي يلاقيها الطفل حينما يكبر ويصطدم بالواقع ويضطر معها للتصرف بالمنطق العقلاني لإشباع حاجاته البدائية وتجنب العقاب من قبل الآخرين.
ج) الذات العليا (Sumoi-ego) أو الأنا الأعلى:
أو ما يسمى بالضمير وهي تمثل القيم والأخلاقيات المثلى التي تقوم بضبط سلوك الفرد ويتعلمها الطفل عن طريق استدماج قيم وأخلاقيات الوالدين والأشخاصالمحيطين به حتى تصبح كأنها قيمه الذاتية التي تنطلق تصرفاته من خلالها بقية حياته.
2-    الـذات عند كارل يونـج:
تعتبر الذات عند يونج جزء من بناء الشخصية وهي «تقع في الوسط بين الشعور واللاشعور»[8]وعلى هذا فإن الذات «هي نقطة الوسط في الشخصية»[9] التي تمد الفرد بقدر من التوازن والثباتالذات كما يراها يونج هي «هدف الحياة الذي يسعى الناس لبلوغه»[10] بشتى الطرق من الزهد والتصوف والرغبة في التحرر من نزعات الشيطان ولكنه يرى أن الناس لا يمكن أن تبلغ هذا الهدف لعدم وجود الكمال في البشر. ومما يجدر ذكره أن يونج لم يتعرض لمفهوم الذات وإنما اكتفى بتعريف الذات وبيان ماهيتها.  

3-    الذات عند ألفرد آدلر AdlerA.:
تمثل الذات عند آدلر في كتابه: «Connaissance de l'homme» نظاما شخصيا وذاتيا للغاية. بمعنى أنها تميز كل فرد عن غيره، فذات الفرد من الصعب أن تشابه ذات فرد آخر حتى ولو كان توأمه الصنوان، فلكل فرد ذات متميزة في حد ذاتها ولذلك فهو يراها صاحبة السيادة في بناء الشخصية وهي لا تتكون فقط مما ورثه الفرد من والديه وإنما تتأثر بالظروف الاجتماعية وتتفاعل مع المتغيرات المختلفة. وقد سمى آدلر ذاته هذه بالذات الخلاقة لأنها تعمل على ابتكار أفكار جديدة وخبرات تعين الفرد على مواجهة ما يطرأ على حياته من تغيرات ولتشبع في الفرد حاجته للحياة وللتميز بين أقرانه. 
4-      نظام الذات عند سوليفان:
استخدم سوليفان مصطلح نظام الذات للدلالة على أن هذا النظام يعمل على وقاية الفرد من القلق والتخلص منه (خفض التوتر) بحيث يعمل على حماية الفرد من أن ينتقد نفسه نقدا موضوعيا. ونظام الذات عند سوليفان يلجأ إلى استخدام الأساليب الوقائية التي تضبط سلوكه وتجنبه القلق الناتج من العقاب. كما يرى أن الذات تتكون من عمليات التفاعل الاجتماعي، وقدم مفهوم الآخرين بمعنى أن الطفل يتفاعل مع الآخرين ذوي الدلالة الخاصة كالأم مثلا بدلا من المجتمع ككل. لذلك فالطفل يتمثل القيم التي تيسر له إشباع حاجاته الخاصة من الآخرين (الأم) تجنبا للقلق الناتج عن مخالفة هذه القيم، لذلك اصطلح ما يسمى «بالذات الطيبة» وهي ارتضاء أشكال معينة من السلوك للفرد و«الذات الشريرة» وهي منع أشكال أخرى من السلوك[11].  
ثانيا: نظرية الذات لكارل روجرز:
يعتبر كارل روجرز أبا لنظرية الذات، فقد صاغ نظريته بعد خبرة طويلة مع أسلوبه في العلاج المسمى"بالعلاج المتمركز حول العميل".وصاغ نظريته في اثنين وعشرين مسلمة وأهم ما ضمنه في نظريته قائمة على الفرد وأنه هو مركز هذا الكون والقادر على تغييره. وفي ضوء خبرته بالعلاج النفسي وتعامله مع أعداد كبيرة من الأفراد وجد أن «بنيان الذات يتكون نتيجة للتفاعل مع البيئة ونتيجة لنظرة الآخرين إلى هذا الشخص وهوبنيان يتغير في ضوء عمليات التفاعل التي تتم في الوسط البيئي. كما أن قيم هذه الذات تمتص من الآخرين، لكن الشخص يتعامل معها كما لوأنها تمت عن طريق خبرته الذاتية (الشخصية)، وأن السلوك الذي يسلكه الفرد ينطلق من نظرة الشخص لذاته إن كان مرغوبا أو مكروها، يتفق مع بنيات الذات ... الخ، وطبعا هذا كله يخضع لتقييم الشخص لنفسه من وجهة نظره في ضوء ما يراه الآخرون. والشخص قد يرفض الخبرات التي لا تتفق مع بنيان الذات حتى لا تسبب له قلقا، وأحيانا نجده يضحي بذاته من أجل الحصول على التقبل الاجتماعي الذي يطمح في الحصول عليه من قبل الآخرين. ومن نطريته قوله أن الشخص ينظر إلى أي خبرة يمر بها في ضوء منظوره الشخصي لذاته، ويعتبرها حقيقة قائمة على الرغم من أن هذه النظرة قد تتعارض أحيانا كثيرة مع الحقيقة».
وبما أن الشخص يوجد داخل مجال خبرة (بيئية)، فإن روجرز يرى أن هذه الخبرة لا تدرك شعوريا كلها وإنما الجزء الأكبر منها يدرك لاشعوريا بالإضافة إلا أن جميع خبراتنا يمكن أن تدرك شعوريا إذا دعت الحاجة إليها. وينظر روجرز إلى الكائن الحي ككل مركب لا يمكن تجزئته، وذلك لأن الفرد حينما يستجيب لموقف خبرة معين، لا يستجيب طرف واحد منه وإنما يستجيب سيكولوجيا وبيولوجيا وبالتالي فالفرد يدرك المجال الظاهري ككل منظم[12] وعلى هذا فإن روجرز يتفق مع أصحاب نظرية الجشطلت في أن الكائن الحي يدرك موقف الخبرة ككل بداية ثم يبدأ في إدراك الأجزاء الصغيرة منه. ويؤكد روجرز على أن هدف الفرد هو تحقيق ذاته والحفاظ عليها ويقصد بتحقيق الذاتالغاية التي يسعى الناس إلى تحقيقها من الحياة، وينطلق ذلك من عدة دوافع توجه الفرد لتحقيق حاجات ملحة لديه. ومن بين فروضه أن أي سلوك للكائن الحي يصاحبه انفعال تختلف حدته بنوع هذا السلوك، فلو فرضنا أن السلوك كان خطرا مهددا للفرد مثل قيامه بالكذب وهو أسهل ما يمكننا قوله فإنه من الطبيعي أنتزداد شدة الانفعال المصاحبة لهذا السلوك. وبناء الذات هو الذي يحدد للفرد نوع الخبرات التي يتقبلها والتي يرفضها.          
وأخيرا يتطرق روجرز إلى ثلاث مواضيع مهمة هي:تحقيق الذات أو الغاية التي يسعى الناس لتحقيقها من الحياة، ثم الإبقاء على هذه الذات تحت مختلف الضغوط والتوترات التي تواجهه في بيئته مما يؤدي إلى نضج الشخصية تحت تأثير الخبرة والممارسة، ثم تأتي مرحلة تقوية الذات وهي أصعب مرحلة، فما أن يحقق الفرد ذاته حتى يسعى إلى تقويتها من خلال عمليات كسب أو فقد الأهداف التي وضعها الفرد لنفسه وعمليات التقدم والإحجام نحو أهداف محددة وما ينتج عنها من إحباطات وآلام تصاحب الفرد أي باختصار عملية صراع مع الحياة[13].
كيف يتكون مفهوم الذات لدى الفرد؟
من الصعب أن نحدد عاملا واحدا يؤدي إلى تكوين مفهوم الذات لدى الفرد، فالعوامل تتداخل مع بعضها بحيث تصنع في النهاية ذلك النسيج المركب المعقد في الشخص. إنهذه العوامل إما أنتؤدي إلى تكوين مفهوم موجب للذات يساعد الفرد على التكيف النفسي السليم مع بيئته ونفسه أو مفهوم سالب للذات يؤدي بالفرد إلى المرض النفسي وبالتالي سوء التكيف. وكما ذكرنا فإن العوامل تتداخل فيما بينها ولا يمكن فصلها سوى من الناحية النظرية. إن وعي الفرد بذاته يتكون في المراحل الستة الأولى من حياته، فالطفل يبدأ بالتعرف على من حوله من أشياء ويحاول إشباع غرائزه الفطرية دون أنيكون واعيا بذاته وما أن يبدأ الوليد في المشي أو الزحف أو الاصطدام بالأشياء الأخرى وما يقابلها من رفض أو استنكار الوالدين لبعض تصرفاته يبدأ حينها يشعر بأن هناك شيء مرفوض عليه فعله. وينمو إحساس الطفل بأعضاء جسده أو ما يسمى بالذات العضوية وهذه تعتبر أولى بوادر إحساس الطفل بذاته وأن له شيء يميزه عن غيره. يلي ذلك محاولة تأكيد الذات في السنة الثانية والثالثة عندما يرفض الخضوع للأوامر، ثم في سن الرابعة وحتى السابعة تكتسب الذات أهميتها من جانب الطفل ويبدأ في التفاخر بذاته أمام أقرانه كأنه يقول «هذا أنا» ويبدأ الطفل بمقارنة سلوكه بسلوك غيره من الكبار أو أقرانه والتوقعات التي يتوقعونه أن يسلكها، هكذا يسعى الطفل لتحقيق ذاته



[1]- Combs A.W. et col., Helping Relationships, Boston, Allyn Bacon, 1979.
[2]- حامد عبد السلام زهران، علم النفس الاجتماعي، القاهرة، علم الكتب، ط.4، 1977.
[3]- ناصر الصديق العزيز. مفهوم الذات والتكيف لدى المكفوفين، المنشآة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس 1983.
[4]- نفس المرجع السابق.
[5]- المرجع السابق نفسه.
[6]-  فرج عبد القادر طه. معجم علم النفس والتحليل النفسي، القاهرة، دار النهضة العربية للطباعة والنشر.
[7]- حامد زهران، الصحة النفسية والعلاج النفسي عالم الكتب للنشر –القاهرة، 1997.
[8]- سيد محمد غنيم، سيكولوجية الشخصية، القاهرة، دار النهضة العربية.
[9]- هوك ولندزي: نظريات الشخصية، ترجمة أحمد فرج وآخرون.
[10]- نفس المرجع السابق.
[11]- هوك، نظريات الشخصية، المرجع السابق.
[12]- هوك، نظريات الشخصية، المرجع السابق.
[13]- سيد غنيم، سيكولوجية الشخصية، مرجع سابق.

Share this article :

10 commentaires: