مفهوم الهوية بين علم النفس وعلم الاجتماع



مفهوم الهوية بين علم النفس
وعلم الاجتماع

إن مفهوم «الهوية» ظهر ليترجم إشكالات جديدة ترتبط بما عرفه المجتمع الحديث من تغيير وتحول مس كل القطاعات والمجالات المختلفة بنسب متفاوتة. فهذا لا يعني أن مفهوم «الهوية» ومفهوم «الذات» -القريب منه- ومفهوم «الهوية الفردية» و«الهوية الجماعية» و«الهوية الثقافية» كانت غير موجودة. كلا !بل كانت محط اهتمام عدد من الباحثين منذ زمن طويل، لكن الاستعمال والتفكير المنظم لها وحولها لم يتم إلا حديثا مع الباحث الألماني إريك إركسون (Eric-Erikson)[1]، فإليه يرجع الفضل في إدخال هذه المفاهيم بشكل منهجي ومنظم، وبالأخص مفهوم الهوية الاجتماعية والفردية، إلى مجال العلوم الإنسانية، حيث أصبح مفهوم الهوية يشكل أحد المواضيع الهامة التي يشتغل بها وفيها الباحثون اليوم. ولا نغالي إذا قلنا بأن من الباحثين من اعتبرها نقلة وتحولا جديدين في حقل العلوم الإنسانية، وذلك على اعتبار أن الهوية أصبحت تشكل منذ الخمسينات مفهوما مركزيا كما حصل لمفهوم «الجنس» في بداية القرن مع فرويد (S. Freud).    
فأهمية «الهوية» كمفهوم تكمن في كونه يشكل نقطة التقاء بين ما هو سيكولوجي واجتماعي وثقافي، إنه يرتبط بمفاهيم سوسيولوجية مثل الدور والمكانة الاجتماعية والجماعية، والإندماج الاجتماعي، والقيم والتنشئة الاجتماعية ... إلخ كما يرتبط ارتباطا عضويا بمفاهيم سيكولوجية مثل الذات والإحساس بالذات والتمثلات والإدراك والعواطف والاتجاهات ... إلخ. وهذا الوضع الإبستمولوجي زاد من تعقيده ومن إضفاء الضبابية عليه، مما جعل البعض يتحفظ في استعماله.  
أضف إلى ذلك الاستعمال المكثف له في عدة مجالات، مما جعل مفهوم الهوية يحتل الصدارة وتزداد مع ذلك ضبابيته في نفس الوقت. فحسب مالك شابل[2] (M. Chebel)  «الهوية» و «أزمات الهوية» أصبحتا –بحكم الاستعمال العادي والعلمي- عبارتين تشملان من جهة، أشياء عامة جدا وبديهية –على الأقل ظاهريا- لدرجة أنه أصبح من غير المعقول أن نبحث لهما عن تعريف، ومن جهة أخرى، انحصر معناهما في مجال ضيق، لغرض القياس، إلى درجة أن معانيهما ودلالاتهما الأولى قد نسيت كليا. وبناء عليه، فهاتان العبارتان يمكنهما أن تدلا على أي شيء.
فعلا، إن ضبابيتهما وتشعب استعمالهما سهل استعمالهما استعمالا إيديولوجيا مغرضا،كما بينت ذلك عدة أبحاث سوسيولوجية، فكم من «دولة» في الغالب من دول العالم الثالث، أعطت أهمية كبيرة لمفهوم الهوية والهوية الثقافية والوطنية لإخفاء الفشل الذريع لسياستها في المجال الاقتصادي والاجتماعي.
الهوية إشكـال ثقافي :
فمن خلال اطلاعنا على عدد كبير من الأبحاث السيكولوجية والسوسيولوجية حول مفهوم الهوية، وقفنا على نوعين من التناول له يختلفان أساسا باختلاف الإشكالية المقترحة للبحث، وكذلك حسب الزمان والمكان.
فإذا كانت الهوية من حيث تكوينها عبارة عن سيرورة مشروطة ثقافيا، فإن طرحها وتناولها كإشكالية يختلف تبعا لمستوى «تقدم» المجتمع وتطوره. فإذا كنا نلاحظ في مجتمعات العالم الثالث عموما هيمنة الجماعة على الفرد هيمنة كبيرة، تتجلى في مظاهر السلوك، فإن الوضع يختلف اختلافا عميقا فيما يتعلق بالمجتمعات الغربية التي حقق الفرد فيها درجة كبيرة من «الفردانية» -ليست بالمعنى القدحي- والمسؤولية الفردية، انعكست على سلوكه اليومي وعلى نوعية المشاركة في التخطيط وفي المشاريع المجتمعية بصفة عامة.
إن الأمر يتعلق في الحقيقة –من خلال درجة تعقد مجتمع معين- بإشكالية مخالفة. ففي المجتمعات الثالثية نلاحظ هيمنة مفهوم الهوية الجماعية (المجتمعية)، الهوية الوطنية والقومية والثقافية، هيمنة ترتبط بعدة اعتبارات لها صلة بالجانب السياسي من جهة، والجانب النفسي من جهة أخرى، أي إن رفع شعار الدفاع عن الهوية ودراستها يعتبر لا شعوريا دفاعا عن الذات وعن الوجود كمجتمع وكثقافة متميزين عن الآخر (الغرب) القوي والمناويء لهذا الوجود نفسه. أما في هذه المجتمعات المتطورة تكنولوجيا و «سياسيا»، فيسود الاستعمال المكثف لمفهوم الهوية الفردية والهوية الجماعية (المهنية) والهوية الجنسية (الذكورية والأنثوية) والهوية الإثنية واللغوية، الخ. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على المكانة والدور اللذين يحتلهما الفرد والجماعة (كفئة) في هذه المجتمعات.    
فالمسألة، إذن، تتعلق في الحقيقة –في مجتمعات العالم الثالث- بهوية مجتمعية (sociétale)، هوية تتصل بالوجود الاجتماعي عموما. أما في المجتمعات الغربية، فالمسألة ترتبط –إلى حد كبير- بالفرد ومؤسساته المختلفة أكثر ما ترتبط بالوجود المجتمعي برمته.

الهوية بين الأبحاث النفسية والاجتماعية:

إن الهوية مفهوم علائقي ومركب يتضمن –بناء على ما يتميز به من خصائص أشرنا إليها أعلاه –صعوبات في التحديد والرصد تختلف باختلاف الباحثين وتنوع الزوايا التي يتناولونه منها. فسوف نقتصر فيما يلي على بعض الاتجاهات السوسيولوجية الأكثر انتشارا وذيوعا، وفي علم النفس سوف نركز على التحليل النفسي لنخلص في آخر العرض إلى منظور علم النفس الاجتماعي للهوية، الذي يعتبر أساسا نقطة الوصل بين النفسي والاجتماعي. 

التصور السوسيولوجي:

ارتبط استعمال الهوية في عدد من الدراسات السوسيولوجية، وبالأخص السوسيولوجيا الدياليكتيكية – التي تستوحي مفاهيمها من ماركس- والسوسيولوجيا الوظيفية، ارتبط بإشكالية الاندماج في نظام اجتماعي معين. إن تعقد المجتمع الحديث وتنوع الفئات الاجتماعية والمهنية والثقافية وتمايزها، جعل عملية الاندماج في النظام الاجتماعي عملية صعبة ومعقدة جدا، تتجلى نتائجها على مستوى تكوين الهوية الفردية والجماعية بشكل يثير التساؤل والبحث.
ففيما يخص السوسيولوجيا الديالكتيكية، تعتبر الهوية انعكاسا لقيم إيديولوجيا مهيمنة في مجتمع معين، قيم تشربها واستدخلها الفرد بشكل لاشعوري، فأصبحت أداة موجهة لسلوكه وتصرفاته في المجتمع. وبناء عليه، فالهوية تعبر بهذا المعنى عن الاستلاب، إن لم تكن هي الاستلاب عينه، بمعنى أن الهوية والشعور بالهوية يعتبران من التكوين والمضمون وعيا مزيفا ومضببا، لا يتطابق مع الشروط والظروف الموضوعية التي تحدده. فالهوية من هذه الزاوية لا يمكن أن تكون إلا وعيا مغلوطا يقتصر على الاعتراف بالنظام الاجتماعي المهيمن، دون الوعي بدلالته الحقيقية كعلاقة هيمنة[3].
ضمن هذا المنظور إذن تعتبر الهوية تكيفا اجتماعيا مبنيا على المعايير والقيم المكتسبة والمرتبطة بالأدوار الاجتماعية المختلفة في نظام اجتماعي معين. إن الهوية كنتاج للتعليم الاجتماعي لا تدل دلالة حقيقية على وضعية الفرد بقدر ما تتضمن أشكالا مختلفة ومتنوعة من التبعية والامتثال. فهي في هذا السياق تشير إلى غياب الهوية مادامت ترتبط عضويا بالاستلاب. 
وبناء عليه، فنحن في منظور السوسيولوجيا الديالكتيكية أمام نوعين من الهوية، هوية مغلوطة ومزيفة وهوية حقيقية. فالأولى تعتبر شكلا من أشكال التكيف الاجتماعي، وتفرض على الأفراد من خلال تنشئتهم الاجتماعية الخاصة، والثانية، أي الهوية الحقيقية، ترتبط بالصراع والنضال من أجل تحقيقها والحصول عليها.
فعلى العموم، تعتبر دراسة الهوية من هذه الزاوية –كما عبر عن ذلك فيشر (G. Fischer)[4] –تحليلا لعلاقات الاجتماعية، يبين الكيفية التي يمكن بها الأفراد فك الحصار والارتباط اللذين يضربهما عليهم نظام اجتماعي معين، لكي يصبحوا فاعلين اجتماعيين من الناحية التاريخية.
أما فيما يخص المنظور الوظيفي، فينطلق من الواقع المجتمعي المباشر ويعتبره مجسدا في عدد من الهويات النمطية التي تعبر في نظره عن نماذج السلوك الاجتماعي التي من المفروض أن يقتدي بها الأفراد. بعبارة أخرى، تعتبر هذه الهويات النمطية ممثلا للواقع الموضوعي الذي يفرضه المجتمع ويتقمصه الأفراد.
فالمجتمع تبعا لهذا المنظور يمكن تصوره على أنه مشروع للهويات النمطية المترجمة للواقع الموضوعي، والتي تبين للأفراد نوع السلوك الملائم لمختلف المواقف المعاشة. إنها حصيلة إجماع بين الأفراد، مما جعلها تعتبر إطارا مرجعيا لسلوكاتهم المختلفة. 
فالهوية إذن انعكاس على المستوى الفردي للقيم المعمول بها في المجتمع، إنها حصيلة وترجمة لما يمكن أن نسميه مجتمع الإجماع  Consensus مجتمع أفراد يتقاسمون نفس القيم والمعايير، ويتكيفون مع النظام المجتمعي.

الهوية في تصور التحليل النفسي:

      يعتبر إريك إركسون (E. Erikson)[5] من الباحثين الأكثر شهرة بين المحللين النفسيين الذي استعمل بشكل مركز مفهوم الهوية. لقد أدخل تعديلات على نظرية فرويد في النمو النفسي الجنسي، نذكر منها على الخصوص تأكيده على ما يمكن أن نسميه التفاعل المتبادل بين المؤثرات الاجتماعية والمراحل البيولوجية التي يمر بها الكائن الحي.
يبرز مفهوم الهوية عنده في سياق حديثه عن النمو النفسي للفرد عبر مراحل حددها في ثمان. وقد تحدث بشكل دقيق عن «الإحساس بالهوية مقابل اضطراب الدور» في المرحلة الخامسة من مراحل النمو. وهذه المرحلة ترتبط بالدخول في المراهقة، أي –حسب إركسون- مرحلة الشباب، حيث المشكلة الرئيسية عند  المراهق هي مشكلة تكوين الإحساس بالهوية، أي معرفة من هو، وما دوره في هذا المجتمع، وهل هو طفل (على نحو ما كان ينظر إليه من قبل) أم راشد (على نحو ما هو صائر إليه الآن)، وهل لديه القدرة التي تجعل منه إنسانا له كيانه وقيمته في هذا المجتمع. ومثل هذه المشكلات تحتل مكانا هاما في تفكير المراهق واهتماماته، كما يصبح أكثر انشغالا واهتماما بالتوفيق بين ما تعلمه من مهارات وأدوار في مراحل نموه السابقة، وبين ما هو مقبول اجتماعيا الآن. وهو، في بحثه عن إحساس جديد بالهوية والاستمرار، عليه أن يخوض الكثير من المعارك التي سبق أن خاضها من قبل في الطفولة[6].
فإركسون لا يفصل الهوية هنا عن مفهوم الذات الذي يعتبر بمثابة الخصائص التي يرتبط بها الفرد ويعتبرها خاصة به وتميزه عن غيره من الأفراد. فهي حصيلة ونتيجة لنوع التنشئة الاجتماعية التي تلقاها ويتلقاها الفرد. فالهوية لا تختلف –حسب إركسون- عن الأنا الأعلى (Surmoi) من حيث إنها تعتبر مستودعا للمعايير الاجتماعية. فبما أنها مركبة من الخصائص الفردية والمعطيات الاجتماعية، فهي تتجلى من خلال أربعة مظاهر أساسية:
-           الثقة في النفس.
-           الطابع الثابت لبعض الخصائص الفردية.
-           تكامل الأنا.
-           الانتماء إلى قيم جماعة ما وإلى هويتها.
فهي، بناء على هذه المظاهر، تتميز بكونها تلعب دورا اندماجيا في الوسط الاجتماعي، وكذلك وظيفة البناء والتكوين للفرد في نسق سوسيوثقافي معين.
المنظور النفسي –الاجتماعي للهوية:
مفهوم الهوية –كما عبر عن ذلك فيشر (G. Fischer)[7]- في علم النفس الاجتماعي يتجلى فكرة مركبة تبين تمفصل السيكولوجي بالاجتماعي على المستوى الفردي، أي تعبيرا عن حصيلة التفاعلات المعقدة بين الفرد والآخرين والمجتمع. إن الهوية هي الوعي الاجتماعي الذي يكونه الفرد أو الفاعل الاجتماعي عن نفسه وعن المواضيع والأشياء المحيطة به، في إطار علائقي خلال سيرورة تنشئته الاجتماعية.
فهي، بناء على هذا، تحتل موقعا متميزا في السلوك الفردي، لأنه إذا كانت الطاقات أو الغرائز –خاصة في التحليل النفسي- يشار إليها بأنها مصدر للتصرف والسلوك الفردي، فإن التمثلات والتصورات التي يكونها الأفراد خلال تنشئتهم صار ينظر إليها اليوم –تبعا للمنظور النفسي الاجتماعي- بأنها أنظمة ضابطة للتصرف ومتحكمة فيه، بمعنى أن كل تصرف هو نشاط قصدي، له دلالته وناتج عن اختيار وتقيم ذاتي لدى الشخص. وبعبارة أخرى، فالمسألة ترتبط بالشعور بالهوية التي يكتسبها الشخص خلال نموه النفسي الاجتماعي والذي يلعب دورا حيويا في تحديد الحوافز والمواقف وتفاعلات الفرد. فبمجرد تكوين هذا الشعور بالهوية، يصبح وسيطا بين الشخص والمحيط ووسيلة لتحديد المواقف من هذا الموضوع أو ذالك، اجتماعيا كان أو ماديا. 
تكمن أهمية المنظور النفسي الاجتماعي للهوية في كونه يتعامل معها باعتبارها نقطة التقاء بين النفسي والاجتماعي، خلافا لما وقفنا عليه مع الاتجاهين السوسيولوجيين السابقين (الديالكتيكي والوظيفي) ومع التحليل النفسي (إركسون) حيث يطغى على منظور كل منهما التركيز على جانب دون الآخر متناسين كون الفرد يعيش بصفته وحدة نفسية جسمية في وسط اجتماعي معين. فتصورهم للهوية يقدم تعاملا واستعمالا جزئيا وغير ملائم لما يعانيه الفرد اليوم في المجتمعات الحديثة، حيث غالبا ما يجد نفسه أمام اختيارات إيديولوجية مختلفة ومتصارعة ومتعارضة تزيد من حيرته وتيهه. وبناء عليه، فالمشكلة أصبحت في كيفية الاختيار وفي محدداته في المجال الثقافي الايديولوجي، ومن ثم في نوعية السلوك والتصرف الناتج عن هذا الاختيار. من هنا تبرز أهمية دراسة الجوهر الإدراكي –(أي الهوية)- لهذه الاختيارات.
وهكذا فالهوية النفسية الاجتماعية، بصفتها ملتقى الفردي والجماعي، تعتبر في آن واحد سببا ونتيجة لوساطة إدراكية/وجدانية. إنها سبب، لكونها تصبح وعيا فرديا يوجه السلوك ويحدد الاختيارات الفردية، وهي نتيجة، لكونها حصيلة تفاعلات اجتماعية تنشيئية. فالهوية من هذه الزاوية تتجاوز ما سبق في المنظور السوسيولوجي والسيكولوجي المعروض أعلاه، لكي تصبح مجالا داخليا/ذاتيا ووسيلة لفهم الكيفية التي يكون بها الفرد «الحقيقة» الاجتماعية.


[1] - فيما يخص أعمال إركسون يمكن الرجوع إلى كتابيه:
E. Erikson, Adolescence et crise : la quête de l’identité, Paris, Flammarion, 1972 ; Enfance et société, Paris, Flammarion, 1970.
[2] - أنظر بالأخص كتابه:
M. Chebel, La formation de l’identité politique, Paris, P.U.F, 1986.
[3]- G.N. Fischer, Les concepts fondamentaux de la psychologies sociale, Paris, Dunod, 1987.
[4] - Ibid.
[5] - (انظر كتابه «الهوية: الشباب والأزمات») المرجع السابق
[6] - الدكتور رشيد محمد غنيم، «النمو النفسي من الطفل إلى الراشد»، عالم الفكر، المجلد السابع، العدد الثالث.
[7] - Fischer, les concepts fondamentaux de la psychologie sociale. op. cit.

Share this article :

17 commentaires: