التنشئة الأسرية والسلوك العدواني



التنشئة الأسرية والسلوك العدواني
من خلال عملية التنشئة الاجتماعية تتشكل ذات الفرد وتتشكل كذلك صورته ومفهومه عن ذاته عبر تفاعله مع الآخرين ابتداء من الأسرة إلى باقي المؤسسات الاجتماعية الأخرى. فالتنشئة الاجتماعية عملية ضرورية في الربط بين الفرد والمجتمع، أي آلية أساسية تمكن الفرد من التكوين الاجتماعي ككائن إنساني حيث تساهم في سيرورة توافقه وتكيفه من أجل اندماجه مع الآخرين. إنها بعبارة أخرى، عملية نمو للشخصية والهوية في علاقتها بالمحيط الاجتماعي الذي يعتبر بالنسبة إليها وسيطا اجتماعيا، عملية تعلم وتعليم وتربية تقوم على التفاعل الاجتماعي، هادفة إلى إكساب الفرد هوية وسلوكا ومعايير واتجاهات مناسبة لأدوار اجتماعية معينة تيسر له الاندماج في الحياة الاجتماعية.           
بالنسبة لهذا الموضوع الذي يشغلنا، تعتبر التنشئة الأسرية في جانب كبير منها مصدرا للعنف والعدوان، وذلك لما يتعلمه الطفل من الخبرات والتجارب التفاعلية بينه وبين مختلف أعضاء أسرته.
دور الأسرة في تكوين السلوك العدواني:
من الشائع في الكتابات المختلفة عن الأسرة وبالأخص ما يتعلق منها بالعلاقات بين أفرادها، أنها تشكل ملجأ خاصا يوفر لأفرادها الحماية والمودة والحنان والتعاطف ويمنحهم الأمان والاستقرار في وجه العالم الخارجي المحفوف بالمخاطر وكل أشكال العنف والعدوان. فالأسرة تمثل الداخل، أي الملجأ ضد الخارج منبع الشر والعنف. فالدراسات التحليلنفسية والاجتماعية قد وضحت أن الأسرة هي نفسها فيها صراع وتنافس وعنف وعدوان بين أعضائها، فالآباء قد يمارسون العنف والعدوان من خلال أساليبهم في التنشئة الاجتماعية[1]. كما أن الأطفال الكبار قد يكونون مصدر عنف وعدوان إزاء إخوانهم الأصغر منهم سنا. فعدد من أشكال العنف والعدوان تمارس في الأسرة على الأطفال أو على الزوجة أو بصفة عامة على العضو أو الأعضاء الأقل (قوة) والأقل نفوذا. هذا دون أن ننسى بطبيعة الحال العنف الصادر من باقي المؤسسات الاجتماعية الأخرى. ففي عدد من الأسر يلاحظ العنف الموجه ضد الأطفال بأشكال مختلفة كالعنف الجسمي (الضرب، والتعذيب المتنوع الأشكال) والعدوان الجنسي والإهمال والعنف النفسي والانفعالي. عنف وعدوان أجمعت جل الدراسات على أنه يؤدي في أسوأ الأحوال إلى تكوين شخص ذي هوية غير متكيفة ومتوافقة مع نفسها ومحيطها، كما يؤدي في أسوء الأحوال إلى الموت. عدد من الأطفال يعيشون تحت الإكراه والتجويع والإهمال وانعدام الحب والحنان. هؤلاء الأطفال يقعون في آخر المطاف في الانحراف والتعاطي للمخدرات أو الانتحار. كما أن بعضهم يستقر في وضعية العنف والعدوان ويجعل منه سلوكا دائما في مواقف حياته المختلفة.      
فالأسرة ليست ملجأ للحماية من العنف والعدوان فحسب بل هي كذلك منبعه ومصدره كما وضحت ذلك مختلف الدراسات النفسية –الاجتماعية. فدراسة كارلي[2] Karli بينت أهمية آثار بعض التجارب والخبرات المعيشة على نمو سلوك الفرد في اتجاه العدوانية، معتبرا أن العدوان الممارس من قبل الفرد (يكشف) شخصية مبنية ومشكلة في واقع معيشي معين، كما يكشف عن أسلوب تكون عبر مراحل تاريخه الفردي. أسلوب من خلاله يرصد مواقف الحياة وأحداثها المتنوعة. وهذا الأسلوب تلعب الأسرة دورا بارزا في تلقينه وغرسه في الطفل،كما سنرى بعد قليل. وعلى الرغم من أن العدوان استجابة شائعة (طبيعية) لعدة أنواع محدودة من المواقف، مثل الإحباط، إلا أن التعبير عنه بحرية او الكف عنه وتقييده مسألة تتوقف على ممارسات التنشئة الاجتماعية التي سبق أن اتبعت مع الطفل.  
فبالرغم من أن عددا كبيرا من الآباء يتجنبون العنف والسلوك العدواني ويعتبرونه مذموما ويعملون جاهدين على عدم تشجيع الطفل على ما ينحو بالطفل اتجاهه. لكن  الملاحظ أن السلوك العدواني شائع بين الأطفال في مختلف مراحل نموهم. هذه المفارقة دفعت العديد من الباحثين النفسانيين وغيرهم من المختصين في هذا المجال، إلى طرح مجموعة من التساؤلات مع محاولة الإجابة عنها لمعرفة أسباب وعوامل السلوك العدواني لدى الأطفال. أسئلة من نوع:
- لماذا يهاجم بعض الأطفال بعضهم بعضا؟
- كيف تتغير هذه الأنماط العدوانية خلال المراحل العمرية المختلفة؟
- ما الدور الذي تلعبه الأسرة ووسائل الإعلام في نمو العدوان عند الأطفال؟
- كيف يمكن تقليل السلوك العدواني عند الأطفال؟
فالملاحظ في هذا السياق، أن أطفال الحضانة يظهرون غالبا درجات من العدوانية أكثر. إلا أن عدوانهم وسيلي، حيث أنهم يتشاجرون من أجل الحصول على اللعب المختلفة. على حين الأطفال الأكبر سنا حوالي (6-7) سنوات فإنهم يلجأون لاستخدام أسلوب عدواني آخر مثل النقد والسخرية والتعبير اللفظي عن عدم القبول. وربما يعود هذا التحول من العدوان إلى العدوان العدائي في جزء كبير منه إلى تحسن مهارات اللغة والاتصال بين الأطفال في هذه المرحلة العمرية، حيث يزيد احتمال زيادة العدوان اللفظي أكثر من العدوان الجسمي.  
ما هو دور الأسرة في تنمية العدوان عند الأطفال؟ وهل تعتبر الأسرة مجالا لتدريب العدوان؟ هل يسهم الآباء في تنمية السلوك العدواني عند الأطفال؟ إن التعامل مع الطفل في الحياة اليومية يتضمن مخاطر كثيرة قد تنم بالفعل عن تدريب على العدوان. فكثير من الآباء يشجعون أبناءهم الذكور –عن حسن نية- على الدفاع عن النفس بالعمل على تدريبهم على العدوان. وهم بهذا السلوك لا يعتبرون أنفسهم من المدربين على العنف والسلوك العدواني. ويلاحظ كذلك من خلال عدة دراسات[3] (بندورا Bandura وباترسون Patterson) أن أسلوب الوالدين في وقف المنازعات بين الأطفال يسهم بطريقة أو بأخرى في تنمية العدوان عند الأطفال. فالعقاب الجسمي المتبع من قبل الوالدين بشكل شاذ وغير متسق يهيء الأطفال لكي يكونوا عدوانيين وذلك كنتيجة لكونهم يعملان كنماذج للسلوك العدواني.  
لقد اتضح كذلك من خلال دراسات باترسون[4] المبنية على ملاحظات فعلية لأطفال عدوانيين وعاديين في أسرهم وفي بيئاتهم الطبيعية، أن للعقاب تأثير مختلف تماما على الأطفال العدوانيين وغير العدوانيين. فالعقاب الوالدي كان له تأثير مانع عندما يطبق على الأطفال غير العدوانيين، لكنه على العكس لم يقمع السلوك غير المرغوب عند الأولاد العدوانيين. كما تبين أن العقاب الوالدي يزيد من السلوك الضار عند هؤلاء الأطفال. ولقد أصر الأطفال المشكلين على سلوكهم العدواني بعد العقاب بمقدار ضعف إصرار الأطفال العاديين. وهكذا كما يشير باترسون إلى أن كلا من الوالدين والطفل يؤثر كل منهما في الآخر، وكلاهما يسهم في تطور أنماط السلوك العدواني.
إن العنف الأسري يهمش (يعزل) الأطفال، ويقلل من تقديرهم لذواتهم، ويولد لهم مشاكل نفسية كالاكتئاب والقلق والخوف ومشاعر الإحساس بالإثم والميول الانتحارية. فالعنف ضد الأطفال يشوه جودة وحيوية فترة من فترات حياة الطفل: الطفولة.
فعلى كل حال، يجمع علماء النفس مع اختلاف أشكال التعبير على أن الخبرات الأسرية لا سيما في مراحل الطفولة المبكرة تلعب دورا أساسيا في بناء شخصية أفرادها وفي نموهم النفسي والاجتماعي. فالطفل الذي تقوم علاقته بأبويه على أساس قدر من الإشباع المناسب للحاجات البيولوجية والنفسية، نتوقع له شخصية مستقلة سليمة تتوافر لها دعائم الاتزان الانفعالي، والقدرة على التوافق والتعاون مع الآخرين، وعلى العكس من ذلك، عندما تكون العلاقة بين الوالدين والطفل تقوم على الإفراط في الحب والتدليل والتصاق الطفل بأبويه، مما ينجم عنه تواكلية مفرطة وأنانية شديدة، وضعف الثقة بالنفس، وعدم القدرة على التعاون والتوافق مع الآخرين. أما إذا كانت علاقة الأبوين بالطفل تقوم على الصراحة والقسوة أو عدم إشعار الطفل بالحب مما يؤثر على شخصية الطفل ويجعله أميل للتشاؤم أو عدم المبالاة أو السلبية أو العدوان، وقد يصب الطفل عدوانه على الأسرة ذاتها أو على المجتمع المدرسي. 
فالأسرة إذن، مسؤولة عن سمات شخصية الطفل من عدوان وعناد وتواكلية واستقلال وانبساط وانطواء ... الخ فأساليب الآباء في تنشئة الأبناء تختلف، فمنهم من يستخدم أسلوب العقاب، ومنهم من يستخدم أسلوب النصح والإرشاد، ومنهم من يرعى أبناءه رعاية شديدة، ويحميهم حماية زائدة، ومنهم من يهملهم إهمالا كاملا. وتبعا لهذا التباين في أساليب التنشئة تتباين أنماط سلوك الأبناء.
استقرار التصرفات العدوانية عند الطفل خلال نموه:
إن الطفل الذي يتلقى معاملة سيئة ويتعرض لإحباطات شديدة تعوق إشباع حاجاته، نقول إن هذا الطفل ينمي ردود فعل عدوانية تستقر وتثبت كباقي ردود الفعل غير العدوانية، فتصبح جزءا من تكوينه النفسي (karli) فدراسات وأبحاث أولويز[5] (Olweus) في هذا المجال عمقت فهم هذه الظاهرة وأكدت أن ما رصد من تصرفات عدوانية في الطفولة وجدت في مرحلة المراهقة. ونفس الشيء تم إثباته بالنسبة لأفراد راشدين يتجاوزون سن الثلاثين، حيث تأكد وجود نفس ردود الفعل العدوانية الملاحظة عندهم سابقا في سن خمس عشرة سنة. دفعت هذه النتائج ألويز olweus  إلى البحث عن تفسير لها في سلوك ومعاملة الآباء كما عبر عن ذلك كارلي: لقد تبين بوضوح أن عاملين اثنين محددين لهذه النتائج يعودان إلى اتجاهات الأم إزاء طفلها، فهناك من جهة، اتجاهها (السلبي) المتضمن للبرود واللامبالاة، والذي يمكن التعبير عنه بالعدوانية والإبعاد، وهناك من جهة أخرى، اتجاهها (المتسامح) الذي يسمح للطفل بكل ما يقوم به من أفعال عدوانية دون محاولة منها لمراقبته وتعويده على المراقبة الذاتية، ويضيف أن هناك عاملا ثالثا يلعب دورا أقل أهمية، ولكن لا يجب إغفاله، ويتمثل في سلوك العنف للآباء والمقترن بالتهديد والعقاب البدني المتكرر.
أجل إن الطفل ضحية سوء العاملة، غالبا ما نخلق منه طفلا عدوانيا، وذلك لأن استخدام الوالدين للعقاب البدني يرتبط عادة بازدياد مستوى العدوانية عند الأطفال، ولذلك نجد أننا هنا بصدد عملية تصعيد متبادل أيضا: والوالدان يعاقبان الطفل عدوانيا، والطفل يستجيب لذلك بالعدوانية، فيعاقب الوالدان الطفل على استجابة العدوانية وهلم جرا.
يعتبر الآباء بالنسبة للطفل مصدرا للإشباع العاطفي وعمادا وعونا على الوصول إلى تحقيق التوجيه والمراقبة الذاتية من أجل تحقيق الاستقلال والتفرد. كما يعتبر الوالدان القدوة والنموذج في القيم والمعايير الأخلاقية. فالطفل –كما بينت دراسات وأبحاث إبتنجر وبولزنجر Ebtinger et Bolzinger- الذي عانى من نقص وحرمان عاطفي في هذا المجال، توجد لديه اضطرابات وردود الفعل الاندفاعية، مما يتيح الفرصة لظهور السلوك العدواني. (فالشخصية العدوانية) يمكنها أن تظهر وتنمو في بعض الحالات مع عدم الحرمان العاطفي ولكن مع توافر التوجيه الذاتي والمراقبة الذاتية الكافية لتحقيق السلوك المتوافق.
يبدو من خلال هذه النتائج مدى أهمية التنشئة الاجتماعية الأسرية ومدى ما يمكن أن تسفر عنه نوعية العلاقات النفسية –الاجتماعية بين الطفل ووالديه وبالأخص تلك العلاقات المتضمنة لسوء المعاملة وعدم تحقيق إشباع للطفل على المستوى النفسي والبيولوجي. لكن الدرس الذي يمكننا أن نستخلصه منها هوكون تلك العلاقات السيئة التي تترتب عنها ردود فعل عدوانية عند الطفل، تجعل هذه الأخيرة تستقر وتثبت في مراحل النمو اللاحقة.
من هم الآباء العدوانيون؟
لقد بينت عدة دراسات أن الآباء العدوانيين [6]  يتصفون في كثير من الحالات:
- بأنهم كانوا قد تعرضوا لسوء المعاملة وهم أطفال، حيث تعرضوا للإهمال والعقاب وسوء المعاملة الشديدة بالضرب والعنف. 
- أنهم يشعرون بالإحباط نتيجة الظروف العصيبة أو الشدائد مثل مشاكل الزواج أو عصيان الأطفال أو عدم القدرة على حسن رعاية الطفل أو البطالة أو الضيق في المهنة أو سوء المسكن. كل هذه العوامل المسببة للإحباط تزيد من احتمال ظهور سوء المعاملة للطفل بالعنف والعدوان.
- أنهم يتصفون بالحاجة الملحة إلى التواكلية الكبيرة التي لم تجد إشباعا فيتوقعون من الرضيع الجديد أن يتجه نحوهم بالحب. 
- كذلك يبدو أن الآباء الذين يمارسون العنف على أبنائهم يكونون من نوع الآباء الانعزاليين اجتماعيا. فهم لا تكون لهم علاقات ود شخصية إلا بالقليل من الناس وعلاقتهم بالأشخاص من خارج الأسرة تكاد تكون منعدمة.
- يميلون كذلك إلى أن يفرضوا هذا النوع من العزلة على أطفالهم، ويمنعونهم من المشاركة في الأنشطة الترويحية مثل الحفلات المنظمة. ولذلك فالأطفال يواجهون صعوبة في عقد صلات الصداقة السوية، ولذلك تراهم هم أيضا يميلون إلى أن يصبحوا انعزاليين.
- يتصف الآباء العداونيون كذلك بأنهم لا يوجد لديهم نسق من القيم والسلوك المنسجم والمستقر والمستمر مما يجعل الطفل يفتقد إلى مرجعية مسلكية قارة يعتبرها قدوة ونموذجا سلوكيا في حياته، مما يترتب عليه أن الطفل يقوم ببعض السلوكات غير اللائقة فيتعرض لعقاب الوالدين وعنفهم المستمر.
- أغلب الآباء العدوانيين ضحية سوء المعاملة في طفولتهم يعانون من مشكلات نفسية وشخصية كصورتهم السيئة التي يحملونها عن ذواتهم، وحاجتهم الجامحة إلى الحب من قبل الآخرين. هذه الوضعية تجعل منهم آباء غير قادرين على تحمل دورهم كآباء، فيستشعرون الإحباط والحرمان، الشيء الذي يدفعهم إلى ممارسة العنف والعدوان على أبنائهم.
إن الآباء العدوانيين لا يمكنهم بأي حال من الأحوال أن يتعاطوا مع أبنائهم بالمعاملة السيئة لو لم يكونوا قد تعرضوا لسوء المعاملة من آبائهم عندما كانوا صغارا. إن هذه النتيجة تؤكد ما سبقت الإشارة إليه من حيث الطبيعة السيكولوجية للبيئة الأسرية وما يترتب عنها من آثار في نمو شخصية الطفل. فالتحليل النفسي بين بصورة جلية أهمية الخبرات الأسرية الأولى في حياة الطفل واتجاهاته، أكد فرويد Freud أن الأبوين المريضين بالعصاب يبالغان في حماية الطفل ويغرقانه في الحب ويوقضان فيه-«الاستعداد لأمراض العصاب»-. وفي نفس السياق بينت إليزابيت هورلوك[7] E. Hurlock أن البيت كأول بيئة للطفل يشكل نمط اتجاهاته نحو الناس والأشياء والحياة عموما، فضلا عن أن الطفل يتوحد –يتقمص- بأعضاء الأسرة الذين يحبهم، فيقلد سلوكهم ويتعلم أن يتوافق مع الحياة على غرارهم، وفي كلمة واحدة أنه بينما النمط الذي ينشأ بالبيت يتعدل كلما كبر الصغار، فهو لا يقتلع من جذوره تماما في الكبر وطوال الحياة.     
عوامل مفسرة للعدوان الأسري:
إن الأسرة بحكم وجودها في مجتمع معين وبحكم أنها تمثل المؤسسة الاجتماعية الأولى في استقبال الصغير وإعداده ورعايته ليندمج في المجتمع، فإنها بناء على هذه المهمة تعتبر نفسها مسؤولة عن تربية الطفل وبالخصوص في حالة معاقبته وتعنيفه، بالإضافة إلى أن المجتمع يعاتب الأسرة إذا تسامحت في عدم مواجهة ما يصدر من سلوكات عن الطفل غير لائقة، فبذلك تكون الأسرة تتلقى التدعيم والاستجابة المرغوبة في ممارسة الضغط والعنف والعدوان في حالات كثيرة، خوفا مما قد يقلل من شأنها ويحط من كرامتها في محيطها الاجتماعي. فالأسرة مسؤولة بذلك أخلاقيا وثقافيا في ممارسة الضغط على الطفل والعمل على إعداده اجتماعيا وإن اقتضى الأمر معاقبته وإساءة معاملته. فمثلا عندما يؤكد بعض الآباء للمربي –المعلم في المسيد غالبا- بالقول: -أنت تذبح وأنا أسلخ- فإن هذا دليل على ما للأسرة والمدرسة من يد طويلة في ممارسة العنف بتزكية من الثقافة السائدة.   
بالإضافة إلى عامل سوء فهم المسؤولية التربوية من قبل الأسرة، هناك عوامل أخرى تساهم في انتشار العنف الأسري ضد الأطفال، نذكر منها بالخصوص شروط المعيشة الصعبة التي تعيشها الأسرة كالفقر والسكن غير اللائق وتعدد أفراد الأسرة والبطالة وانتشار الأمراض والانحرافات وتعاطي المخدرات والأمية وغياب الوعي الاجتماعي والصحي والسياسي الخ. كل هذه العوامل المنتشرة بنسب مختلفة في عدد كبير من الأسر في المجتمع، تساهم في مضاعفة فرص ممارسة العنف على الأطفال إما لإجبارهم على التعاطي مع السلوكات الانحرافية وإما بمنعهم وتجنيبهم الوقوع فيها معتقدين بذلك أنهم يمارسون التربية اللائقة والمرغوبة في المجتمع.   
هذا لا يعني أن العنف يوجد في الأوساط الفقيرة وحدها بل هناك أنواع من العنف والعدوان تمارس على الطفل في الأسر –الميسورة- مما يجعل الظاهرة منتشرة في المجتمع بأكمله، فالأسر الميسورة لها أوضاعها النفسية والاجتماعية وظروفها المادية التي تفرز نوعا من المشكلات التي يعاني منها أفرادها معاناة كبيرة، معاناة يترتب عنها سوء معاملة الطفل في حالات عديدة. فخوف الوالد على فقدان الجاه أو ضياع الثروة وإضعاف الدور الاجتماعي، أو الخضوع لتبعات الحياة السهلة من بذخ وترف زائد، تغرقه في وضعية قلق صعبة وهواجس قاتلة، كل هذه العوامل وغيرها تزيد من ممارسة العنف على الأطفال.  
هناك كذلك الأسلوب التربوي[8] المتبع من قبل بعض الآباء، كالأسلوب الصارم في المعاملة، والذي يتجلى في مظاهر مختلفة من الأمر والنهي والنقد والعقاب لرغبات الطفل، لدرجة أن كلمة (لا) تكون دائما على لسان هذا النوع من الآباء إذا أقدم أبناؤهم على فعل من الأفعال، أو طلبوا طلبا لا يجد قبولا لديهم. إن أسلوب تربية هؤلاء الآباء يقوم في أساسه على السيطرة والتحكم الزائد، فضلا عن أنهم في كثير من الأحيان يتطلبون من أبنائهم القيام بأعمال صعبة وشاقة، كما يحملونهم من المهام والمسؤوليات في سن مبكرة، ما يجعلهم يشعرون بالعجز والقصور. يحدث كل ذلك وليس من حق الطفل إلا أن يطيع دون مناقشة. فهذا الأسلوب التربوي الصارم الذي يقوم على العنف، يحرم الطفل من إشباع الكثير من حاجاته النفسية مما يدربه على العدوان والعنف مستقبلا كراشد. فالأطفال ضحايا العنف والعدوان قد تساهم في وضعيتهم هذه مشكلات وعوامل نفسية تتعلق باضطراب الروابط الانفعالية بين الزوجين بسبب ما يسيطر عليهما من اتجاهات نحو الوالدية أو نحو الزوجية أو بسبب تكوينهما النفسي الشاذ. فاتجاه الوالدين أو أحدهما نحو الوالدية على أنها لا طاقة لهما باحتمالها، تنعكس آثاره على الأطفال أنفسهم، إذ نلاحظ أنهما يعاملانهم معاملة تقوم على عدم التقدير والإهمال والنبذ والعنف الأمر الذي يؤدي إلى شعور الأطفال بعدم الانتماء إلى الجو العائلي. بالإضافة على أن بعض المشكلات النفسية للزوجة قد تجعل منها (زوجة عدوانية) إزاء زوجها وأبنائها مما يعرض المجتمع الأسري إلى الاضطراب وتفكك الروابط. من ذلك نذكر على سبيل المثال الزوجة الهستيرية والزوجة المسترجلة والزوجة المتسلطة. أشكال متعددة من أنماط الشخصية توجد عند الزوجة كما توجد عند الزوج، مما يترتب عنه بيئة أسرية لا تبعث على الارتياح والاطمئنان بالنسبة لأفراد الأسرة وبالأخص بالنسبة للأطفال.                  
إن الأسرة كما بينت عدة دراسات يمارس فيها العنف والعدوان على الأطفال نتيجة لعوامل متشابكة ومعقدة ذات مصدر نفسي واجتماعي واقتصادي وثقافي. فالأمر يتعلق بمشكلة معقدة يعيشها الطفل بألم شديد.


[1] - Voir Fischer G.N., la dynamique du social, op.
[2] - Karli, P. l'homme agressif, op.
[3] - Bandura, A., Agression, a social learning analysis, Englewood cliffs, Ng, Prentice-Hall, 1973.
[4] - Patterson G.R. and col, Agressive behavior, 1984.
[5] - OLWEUS  D., Development of stable agressive reaction patterns. In males- V.I, orlando, Academic, Press, 184.
[6] - Voir Fischer  G.N., la dynamique du social, op.
[7] - Hurlock, E.B., Child development, MC Graw-Hill Book compagny, N.Y, 1964.
[8] -  مجموعة مؤلفين: المرجع في مبادئ التربية، تحت إشراف سعيد التل، عمان، دار الشروق للنشر والتوزيع، 1993.

Share this article :

9 commentaires: