من أجل علم نفـس قـوي بالمغرب وقضايـا أخـرى




من أجل علم نفـس قـوي بالمغرب
وقضايـا أخـرى

تم هذا الحوار ضمن حوارات «ضيف العلم» يوم الأحد 18 فبراير 1990، وقد أجرى الحوار مع الصحفي مصطفى الرزرازي وفضلنا نشره هنا تعميما للفائدة، وتجدر الإشارة إلى أن بعض المشاريع المذكورة في هذا الحوار والخاصة بالباحث قد تم تنفيذ بعضها. 
سـؤال- الأستاذ حدية من الشباب الذين استكملوا تكوينهم العالي بالخارج، في مجال العلوم النفسية، وهو يمارس الآن مهنة التدريس الجامعي بكلية الآداب، فهل له أن يحدثنا عن تجربته ثم عن واقع البحث السيكولوجي في المغرب؟.
جـواب- في البداية أشكر أسرة العلم على هذه المبادرة الجادة التي سمحت للمثقفين بالتعاون وبتبادل وجهات النظر حول مختلف القضايا. أود أن أوضح هنا أن التكوين لا يستكمل، فنحن نتعلم باستمرار من خلال الدراسة والبحث في مختلف مجالات علم النفس، والعلوم الإنسانية عامة. أما بخصوص تجربتي في هذا المجال فإنني حصلت على الباكالوريا ثم التحقت بقسم الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس بالرباط، وحصلت على دبلوم الإجازة في تخصص علم النفس، ولما كنت محظوظا في الحصول على منحة ذهبت إلى فرنسا حيث أعددت دكتوراه السلك الثالث في علم النفس الاجتماعي حول «الهجرة» من الوجهة السيكوسوسيولوجية، والتحقت بعد ذلك بقسم علم النفس بكلية الآداب بالرباط كأستاذ جامعي ثم سجلت رسالة لتحضير دكتوراه الدولة في علم النفس الاجتماعي، وبحكم تواجدي في البيئة المغربية، حاولت توجيه البحث نحو مجالات تهم مجتمعنا بصفة دقيقة، وبالأخص حول مشكلات الطفولة والشباب والمشاكل الخاصة بالفتاة والمرأة. وقد اكتمل البحث انطلاقا من ذلك حول التنشئة الاجتماعية والهوية وهو الآن منشور في مؤلف بعنوان: «الهوية والتنشئة الاجتماعية للطفل القروي المتمدرس».   
سـؤال- انطلاقا من نفس التجربة أيضا، كيف يتصور الأستاذ واقع علم النفس في المغرب وفي الوطن العربي عامة؟ ثم ما هي الآفاق التي يستشرفها هذا العلم مستقبلا؟. 
جـواب- للإجابة عن هذا السؤال المهم، أرى أن الحديث عن علم النفس في المغرب، يحيلنا أولا إلى الحديث عن علم النفس في الوطن العربي، كما يحيلنا إلى الحديث عن مدى أهمية هذا العلم في بلد كالمغرب. ما يستدعي الوقوف على التحولات الحاصلة في التاريخ الاجتماعي لمجتمعنا المغربي بصفة خاصة والمجتمع العربي عامة. إن علم النفس دخل إلى العالم العربي كما دخلت تخصصات حديثة إلى العالم العربي. نعلم أن البعثات التي ذهبت من مصر ومن باقي دول العالم العربي إلى أوروبا للتكوين وبالأخص في بداية النهضة، كطه حسين وغيره مثلا. ضمن هذه الحركة ذهب باحثون عرب إلى أوروبا للتكوين في مجال علم النفس. من جملتهم الأستاذ يوسف مراد وغيره من المثقفين الأوائل الذين تكونوا في فرنسا أو في انجلترا، وعادوا بتكوين من ثمراته أنهم عرفوا بهذا التخصص في العالم العربي. والكتب الرائجة في أغلب المكتبات العربية اليوم، كتب أنتجها هؤلاء الرواد الذين ذهبوا إلى الغرب للتكوين، ومضمون هذه الكتب وهذه الدراسات ذات خاصية تعريفية بالتخصص، حيث تقدم لنا هذه المعرفة على أنها تخصص جديد، اسمه «علم النفس»، له مناهجه التي هي كذا ... وله قضاياه التي هي كذا ... وهي كتب بكل أسف لا تزال إلى اليوم تطغى على «سوقنا» الفكري، حيث لازلنا لم نتجاوز هذه المرحلة إلى مرحلة أعمق من البحث بما في الكلمة من معنى، إذ نجد هذه الكتب مطبوعة في الخمسينات، طبعات متعددة. وبنفس المضامين، التي لم تخضع في أغلبها للتعديل أو التغيير تبعا لمستجدات هذا العلم. أما عن أهمية علم النفس بواقعنا المغربي والعالم العربي بصفة عامة، ذلك أن المجتمع المغربي عرف مرحلة من الاستعمار حملت معها من التقنيات ومن الثقافة في مختلف المجالات الإعلامية والصناعية وغيرها، ما غير وجه المناخ الاجتماعي للمجتمع المغربي، وتكونت بالتالي مدن كبرى وتكونت قطاعات صناعية متطورة، وظهرت مدارس التعليم أي أن تحولا عميقا حدث في المجتمع الجديد: مجتمع دخل في سيرورة خاصة به وأصبح في ركب الدول المتقدمة التي هي نموذج للمحاكاة.     
وداخل هذا المناخ كانت ضرورة علم النفس تفرض نفسها، وأصبح من اللازم أن يكون هناك متخصصون للإجابة على عدة أسئلة أصبح يطرحها الواقع الجديد في تطوره «التحضيري» الذي يعيشه المجتمع، لقد كان المجتمع قبل ذلك يعيش في إطار جماعي قبلي، وأصبحنا داخل هذا المجتمع الجديد أو داخل هذه البنية الجديدة أمام أفراد تفككت علاقاتهم أو هي في طريق التفكك، وكانت العلاقات المحددة للمجتمع خلال مرحلة ما قبل الحماية أو خلال الحماية هي العلاقات الجماعية، وأصبحنا أمام مفهوم جديد هو «الفرد» الذي يعيش مشاكل من نوع خاص ذات بعد نفسي اجتماعي، وذات بعد ثقافي أيضا، في مختلف مجالات الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والمهنية ... الخ ... وبطبيعة الحال وجدنا أنفسنا نعيش داخل المجتمع الحديث، بمهام كبيرة يفرضها المناخ الجديد مما استعدى ضرورة التسلح بتقنيات جديدة وبتصورات جديدة، وهذا لا يعني طبعا أن ذلك سينفي معطيات وسيكولوجية الواقع مما تحمله من خصوصيات.
سـؤال- على ذكر التحولات التي تعرفها العلاقات الاجتماعية بالمغرب، اعتقد أن هذه التحولات لم تنف المقاومة التي مازال يعيشها علم النفس سواء داخل مؤسسات البحث أو داخل المؤسسات الاجتماعية عامة، وبوجه خاص العلاج النفسي، حيث يمارس الإنسان المغربي مقاومة تجاه هذه المعرفة وتجاه هذا العلم، كيف إذن يحل هذا التناقض إن لم نقل التضاد بين تطور المجتمع وبين استمرار المقاومة المضادة لعلم النفس؟.
جـواب- إن الباحثين والممارسين في حقل العلوم النفسية، وخاصة المطبقين لتقنيات هذا العلم داخل العيادات والمستشفيات، تكون أغلبهم في بلدان أجنبية بتكوين مثين ودقيق، تم في إطار خصوصيات معينة لهذه المجتمعات، لكن ذلك لا يعني أن تلك النظريات لا تصلح للتطبيق كما هو شائع وهذا خطأ، فيكفي للنجاح في تطبيق هذه النظريات وهذه التقنيات في البحث والممارسة التطبيقية، يكفي الوقوف على الخصوصية النسبية للمجال المبحوث، وأركز هنا على النسبية لضرورة الوسط الاجتماعي الثقافي وتأثيره على الظاهرة النفسية سواء كانت ظاهرة طبيعية/سوية أو مرضية وكذا ليتأتى لنا الوقوف على هذه الظاهرة قصد معرفة خصوصياتها ونوعياتها وبالتالي التعامل معها تبعا لذلك.
لكن النسبية لا تفيد تخلينا عن التعامل مع النظريات والمفاهيم الصادرة من الغرب، لأنها تصلح –كما يقال- لكل موطن شريطة الحذر تجاه مميزات كل بيئة اجتماعية وهي تعقيدات بكل أسف لم ينضبط لها الباحثون والمطبقون سواء بالمغرب أو بالعالم العربي بما فيه الكفاية، ولذلك لا يزال معوق إشكالي كبير يعترض سير البحث، وهو الدفع بتلك المقاومة إلى الزوال.
لكن ذلك لا يجب أن يخفى عنا أن أي تنمية للفرد أو المجتمع لا يمكنها التحقق إلا في ظل ثقافة المجتمع نفسه، خاصة وأن للإنسان المغربي «سيكولوجيته الخاصة» أي أن له معارفه السيكولوجية الخاصة به في فهم المرض والصحة وفي فهم العلاقات الاجتماعية خاصة منها التي هي نابعة من تراثه المجيد ومن ثقافته العميقة والفنية. فهذه الثقافة، وهذه السيكولوجية العفوية التي تميز الإنسان المغربي مثلا هي الطاغية، غير أن عوائق مسيرة العلوم أحيانا كثيرة، وهي ناتجة بطبيعة الحال بفعل عدة عوامل أهمها: الأمية والفقر وسيطرة الخرافة ...
كل هذه الاعتبارات تجعل من الرؤية الموضوعية العقلية بممارسة تقنيات سيكولوجيات عقلانية كما يمارسها الغرب، تجد مقاومة عندنا، لكن مجتمعنا عموما يتجه نحو العصرنة والتحديث، ودورنا جميعا هو تعميق البحث من ناحية وتعميق الإحساس بأهمية هذا التخصص في تنمية المجتمع بصفة عامة. والفرد على وجه التحديد.
سـؤال- يشتغل الأستاذ حدية منذ مدة طويلة في إطار علم النفس الاجتماعي وبوجه خاص حول موضوع الطفل القروي، ما هي الدوافع التي جذبت اهتمامكم إلى هذه الدرجة بهذا الموضوع؟.
جـواب- القروي بصفة عامة أو الوسط القروي هو المهيمن في مجتمعنا، وحتى إحصائيا أو ديمغرافيا يمكن إثبات ذلك على سطح البنية الاجتماعية العامة للمغرب، أما عن أسباب اهتمامي بهذا الموضوع فقد نبع في البداية، من احتكاكي بالمهاجرين في فرنسا حين كنت أعد رسالة السلك الثالث،حيث ركزت اهتمامي حول المهاجرين في فرنسا، وسبل تواصلهم في الأسواق الفرنسية، وحاولت أن أقف بالتالي على الخصائص النفسية لهؤلاء المهاجرين، فوجدت أغلبهم ينحدرون من أوساط قروية، خاصة منهم الذين مورست عليهم سياسة التهجير خلال وبعد مرحلة الاستعمار،ولهذه الغاية انصرفت للتساؤل عن خصوصية الإنسان المغربي النسبية وبالتالي للبحث عن مكونات التشكيلة النفسية أو التركيبة النفسية عند هؤلاء المهاجرين بوجه خاص، كيف تتكون؟ ما هي التأثيرات التي يمارسها المجتمع العصري؟ ما هي آثار وسائل الإعلام الغربي عليهم؟.  
وقد دفعني هذا السؤال عندما عدت إلى المغرب إلى البحث حول هذه الفئة، ومن جهة أخرى تساءلت حول ما إذا كان المغرب بالفعل في سيرورة تحولية؟ ثم حول ما إذا كان التمدن وظهور المدن مع بداية القرن مظهرا من مظاهر هذه السيرورة التي برزت مع دخول المستعمر، كما هو شأن المدن التي لم تكن موجودة، ثم أصبحت تظهر وتتوسع كالدار البيضاء والقنيطرة ... وإلى جانب ذلك ظهرت داخل كل مدينة، مدينة جديدة.
وقد تساءلت أيضا عن الأفراد الذين يسكنون هذه المدن، والذين يقطنون هوامش المدن. خاصة الذين نزحوا من البوادي، ساءلتهم عن تكوينهم وعن أسباب نزوحهم، فوجدت وكأن المستقبل الذي يسير فيه المغرب أساسه جاء من الهجرة نحو المدن الكبيرة، وهنا طرح علي سؤال كبير:كيف إذن يتكون هؤلاء الأفراد، كيف ينمون، وما هي التأثيرات الاجتماعية التي تمارس عليهم أثناء تكوينهم، وأثناء نموهم النفسي الاجتماعي والشخصي. وبالمقابل ما هو التأثير الذي يمارسونه هم بدورهم على المدينة؟.  
وكان هذا الإشكال هو السؤال الجوهري الذي حرك اهتماماتي نحو البحث في الموضوع بكيفية دقيقة فإذا كنا داخل المجتمع أو داخل الوطن عامة، نرمي إلى تكوين فرد عن طريق التكوين المدرسي، وعن طريق التعليم أي تكوين الفرد الصالح لهذا المجتمع،وتنميته فإن التساؤل عن نوعية تكوين الشخص داخل المدرسة يعتبر محورا حتى نعرف ما إذا كان المستقبل يسير في هذه الزاوية أم لا؟.   
سـؤال- إذن، في نفس السياق، اذكر أن من أهم نتائج كتابك «الهوية والتنشئة الاجتماعية» تتعلق بعدم تجانس الوظيفة التي تقوم بها المدرسة،والوظيفة التي تقوم بها بعض المؤسسات الاجتماعية الأخرى وخاصة «الأسرة» وكأننا بصدد مؤسسة تعطي للطفل وتحدد له أدوارا اجتماعية مغايرة لمؤسسة الأسرة، فإلى أي حد تظهر أسباب هذا اللاتجانس وما هي مخاطره إذا كان بالفعل اللاتجانس يدعو دائما إلى التفكير في المخاطر؟. 
جـواب- هذه النتيجة أساسية ضمن ما انتهت إليه الدراسة الميدانية التي قمنا بها في هذا المجال،كما قام بعض الزملاء الباحثين بأبحاث أخرى حول نفس الموضوع، وللحديث عن هذا اللاتجانس، لا بد من العودة إلى البحث في المدرسة،كيف جاءت ودخلت إلى العالم القروي؟ فهي معطى واقعي دخيل على البيئة القروية، أتت إليه بحمولات ثقافية نابعة من المجتمع المديني، حاملة معها رواسب «هذا المجتمع الثقافي الحضري الخاص».
يبقى أن المدرسة حملت عبر الكتب المدرسية إلى المجتمع القروي تصورات ومضامين فكرية جديدة، كما حملت معها طاقما تربويا يمرر هذا الخطاب المدرسي، كيف ينظر القرويون إذن إلى هذه المتغيرات، خاصة وأن جلهم أميون؟ وكيف يشعرون ويتفاعلون مع هذا الواقع الجديد؟.  
الملاحظ بكيفية دقيقة هو أن الآباء يمارسون نوعا من القطيعة مع هذه المدرسة ومع قيمها الجديدة، ومرد ذلك كما وقفنا عليه خلال البحث –من خلال اسيتجواباتنا مع الآباء والأطفال- إن الآباء يشعرون بنوع من النقص السيكولوجي والسيكوسوسيولوجي إزاء هذا النموذج، حيث يعتبرون أنفسهم كأشخاص أو كمجتمع متجاوز ثقافيا واجتماعيا. وأصبح بذلك موضوعهم الشاغل لذهنهم هوثقافة المدينة أو ما يسمى بنموذج المجتمع المدني، خاصة وإن المدرسة في اعتقادهم هي التي تكون «رجل المخزن» في العالم القروي، وبطبيعة الحال، فإن ما يمارسه هذا الدور الاجتماعي من إشباع سيكولوجي بالنسبة لهؤلاء الأفراد، وكذا لما تعطيه هذه المدرسة من دور على المستوى الاجتماعي، حيث أن المتخرج الذي يحصل على شهادة تخول له العمل مع «المخزن» وتصبح له أجرة قارة تكون بمثابة العمود الفقري لحياة هذا الفرد بعيدا عن مظاهر المحنة والتقشف السائد في الأجواء القروية. إن هذا النوع من التصور والشعور بالنقص، تجاه النموذج المديني الذي تمرره المدرسة هو الذي يعمل على تعميق القطيعة وإلى عدم التجانس ما بين المدرسة والقرية عموما،هذا من الناحية المؤسسية.   
أما فيما يخص سيرورة تكوين الأفراد، أعتقد أنهم يعيشون نوعا من المثاقفة وإن كانت سطحية، ما دامت لا تمس أعماق تصوراتهم،وهو أمر ناتج عن عدم معرفتهم للقراءة ولعدم فهمهم لعدد كبير من المعطيات الثقافية المدينية ولذلك يتصور الآباء النموذج المديني بشعور بالنقص كنموذج من شأنه إشباع حاجاتهم التي يتمثلونها عبر سيرورات الأنا وسيرورة النفس.       
يبقى الآن كيف أن الأطفال الذين يتلقون التأثير المدرسي وتأثير الآباء المثاقفين في نفس الآن، مما ينعكس على تكوينهم،ويصبح لدينا طفل لا يثور لا على الآباء ولا على المدرسة،حيث تجده مخلصا لقيم الآباء، ويتطلع في نفس الآن للإخلاص للنموذج المديني، والواقع أني أتمنى استكمال هذه الدراسة بتتبع مرحلة ما بعد نزوحهم إلى المدينة، واشتغالهم بها أو بأي مركز من المراكز الحضرية الصغيرة، لأتمكن من رصد طرق عيشهم وسيرورة تكوينهم، هل يعيشون نوعا من التمزق والحيرة أم أنهم يتعايشون ميكانيكيا مع الوسط الجديد، هل هم سينتمون إلى المركز الحضري الذي نزحوا إليه، أم أنهم منتمون إلى البادية التي منها ينحدرون.  
ومن خلال النتائج التي توصلنا إليها سابقا، يبدو أن المدرسة بالرغم من أهميتها في تكوين الفرد وفي توعيته على المستوى الذهني والنفسي الاجتماعي، فإنه تبقى لها مخاطر تظل ماثلة في المجال اللامتكافئ الذي تتواجد فيه.
سـؤال- للأستاذ حدية تكوين فرنسي، وهو كما يعلم الجميع معروف خاصة في مجال العلوم الإنسانية بإغراقه النظري على حساب الميدان، ومع ذلك يلاحظ أنك تؤكد في أغلب دراساتك على تبني الطرق الميدانية تبعا للاتجاهات الأمريكية المعاصرة، هل هذا يفسر عدم اقتناع الأستاذ بالسيكولوجية الفرنسية؟.
جـواب- فعلا، إنني خلال محاضراتي، وخلال الأبحاث التي نشرتها أدعو باستمرار إلى الاهتمام بالبحث الميداني، لكن ذلك لا ينفي أبدا الشق النظري في البحث، كما إني حيث أتحدث عن البحث الميداني لا أعني به البحث الاختباري والامبريقي Recherche empirique، فالتنظير يوجه الميدان والميدان يوجه التنظير، أما إذا كنا اختبارين فسوف لا نأتي من الميدان إلا بالشيء القليل، لأن البحث لا ينمو و لا يعطي الجديد إلا عبر مساءلة الميدان والتعامل معه، وكما قلت سابقا بأن البحث الميداني من خلال المعادلة: النظري/الميداني يمكننا من تقديم الجديد وإحداث تراكم على المستوى المعرفي، وأحيل هنا إلى مثال بسيط جدا أثاره في الهند الباحث السيكولوجي سينحه  SINHAحيث أكد في أحد أبحاثه إلى جانب باحث آخر هو«براماد»، على أن نظرية فستنجر حول التنافر المعرفي في أصلها ذات جذور هندية[1]، اكتشفت خلال البحث في الكوارث الطبيعية مثل الزلازل. ولما جاء فستنجر احتضن هذه النظرية وأخرج منها نظريته الخاصة. ما أريد أن أوضحه هنا هو أن البحث الميداني في أي بلد من البلدان سواء في بلدنا أو غيره يساهم في تنمية وحدة التراكم على مستوى النظرية العامة وعلى مستوى البحث السيكولوجي العام، بينما إذا كنا ننظر ونعيد ما قاله الغير بشكل مدرسي، فهذا سوف لن يفيدنا في شيء إلا في جعلنا قوالب فارغة، صحيح أن العلم لا وطن له، لكن في حدود مراعاة المتميز والخصوصي داخل كل مجال اجتماعي، أما فيما يتعلق بالقول الذي يفيد بأن البحث الفرنسي نظري، بينما البحث الأمريكي ميداني،أقول بأن هذا التمييز أصبح الآن متجاوزا إلى حد ما، خاصة في مجال العلوم النفسية،حيث أصبح الفرنسيون أنفسهم يشعرون بتأخرهم عن البحث الأمريكي الذي كان ولا يزال أكثر برغماتية وأكثر ارتباطا بالميدان، وبذلك شرع الفرنسيون في توطيد روابط التعاون المشترك وتبادل الخبرات والزيارات وترجمة الأعمال الأمريكية، مما أغنى توجهات البحث السيكولوجي بفرنسا كما هو الحال اليوم.    
أما بالنسبة لي شخصيا، فإنني كنت دائما من دعاة الاهتمام بالميدان أكثر من أي شيء آخر، ثم أنني ما دمت أكتب عادة بالفرنسية، وأقرأ بلغات أخرى ساعدني ذلك على تبادل الخبرات سواء عن طريق القراءة أو عن طريق الاتصال لتجديد المعارف و إغنائها كل حين.
سـؤال- أبرزت قبل قليل أهمية الميدان التطبيقي في مجال السيكولوجيا، لكن الملاحظ في بيئتنا المغربية هو أن علم النفس يدرس بجامعاتنا كمعلومات نظرية فقط، وفي غياب تام لأي مستوى تطبيقي أو مخبري، ما هي الأسباب المسؤولة عن هذا الوضع في اعتقادكم؟.
جـواب- بالفعل، تعاني جامعاتنا خاصة منها التي تحتوي على قسم السيكولوجيا، من غياب التجهيزات، ولا أقول بأن المسؤولين لا يعطون أهمية لهذا الموضوع، وأنهم غير مهتمين به، فما لاحظته شخصيا خلال لقائي مع المسؤولين سواء داخل الجامعة أو خارجها هو أنهم مؤمنون بهذا، ولكن عندما نعمق التساؤل نجد أيضا بأن طبيعة التعامل السيكولوجي أو طبيعة الوجود الذي أحاط بهذا التخصص في قلب جامعاتنا هو الذي أعاق إيجاد التجهيزات الخاصة بعلم النفس، ولكي نوضح أكثر نقول بأن علم النفس إلى جانب علم الاجتماع هما في قلب شعبة الفلسفة، ولذلك منذ تأسيس شعبة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس، كانت إلى حد قريب جدا، وربما إلى حدود 1978 بل إلى يومنا هذا، لا تكون باحثين في علم النفس بما تحمله الكلمة من معنى، ولا تكون باحثين في علم الاجتماع بالمعنى الكامل، بل كانت تكون أستاذة لتدريس الفلسفة في السلك الثاني، وبطبيعة الحال فإن مقرر الفلسفة فيه قسم ضئيل من علم النفس، وقسم ضئيل من علم الاجتماع، إلى جانب الفلسفة، وإلى حدود السبعينيات كان يدرس علم النفس بجامعاتنا أساتذة لهم تكوين فلسفي، وبذلك كان علم النفس ببلادنا مجرد «علم نفس فلسفي»، ولا زلنا إلى اليوم نؤدي ضريبة هذه النشأة الملتبسة، وهو وضع يؤرق الشباب الباحثين الذين يمارسون اليوم علم النفس، مما يجعلهم يطرحون المشاكل المتعلقة بالتجهيز التطبيقي لقسم علم النفس داخل الجامعات والمعاهد المغربية، واعتقد أن مشكلة التجهيزات بما في ذلك خلق قسم لعلم النفس مستقل عن شعبة الفلسفة، أصبح ضرورة ملحة الآن، حتى يستطيع هذا القسم القيام بمهامه العلمية وبالتالي المساهمة في التنمية الاجتماعية.    
سـؤال- تدعو بعض الكتابات العربية والمغربية إلى علم نفس عربي، هل تؤمن بهذه الدعوة؟
جـواب- لا، لأن القول بعلم نفس عربي، يعودنا للحديث عن علم نفس مغربي، وآخر جزائري وآخر تونسي، وآخر برتغالي واسباني ... وهذه مغالطة كبرى لأن العلم لا وطن له، ونحن عندما نمارس البحث السيكولوجي نريد بدءا المساهمة في تنمية النظرية العامة على المستوى الدولي، مع إغناء معرفتنا الخاصة والمتميزة بمجتمعنا المغربي، فنحن حين نتعامل مع النظريات والمفاهيم والمناهج الغربية، نأخذ بعين الاعتبار تمايز الوسط بمؤثراته السوسيوثقافية والتاريخية التي مر ويمر منها المجتمع وهي بالطبع تأثيرات بالقدر الذي تميز فيه بنية المجتمع وتفاعلاته، تميز أيضا تعاملنا مع النظريات التي نشتغل عليها، بإعطائنا نوعا من الحذر الابستمولوجي، يوجه تعاملنا مع تلك النظرية، ومع ما سنكشفه أو ما سنعمل على إبرازه بنوع من التجديد والدقة، بهذا المعنى يكون إغناؤنا للنظريات العامة على مستوى استثمار ما يمكن منها أن يستثمر، وتطوير ما يمكن فيها أن يطور،ونقد ما يمكن فيها أن ينتقد.     
ويستحسن بدل القول بعلم النفس العربي أو الإسلامي أو غيرهما، يستحسن أن نبحث عن علم النفس بالمغرب وعلم النفس بالوطن العربي. 
سـؤال- يميل الأستاذ حدية في أبحاثه الجديدة بقضايا تتطلع إلى الجيل الجديد من طفولة وشباب كالقضايا ذات استشراف مستقبلي، بدل الاهتمام والبحث عن مكونات الإنسان المغربي انطلاقا من الماضي كما هو شأن كثير من الباحثين، هل لذلك دواعي موضوعية، أم يرتبط ذلك بمبررات ذاتية على اعتبار الأستاذ حدية مثلا من الجيل الجديد؟.
جـواب- كما قلت سابقا، بأن التأثيرات السوسيوثقافية والاجتماعية هي التي تملي علينا نوع المشاكل التي يجب على الباحث أن يتطرق إليها، كما تملى علينا نوع التقنيات ونوع النظريات.
وبما أننا نلاحظ بأن مجتمعنا أكثره من الشباب كشريحة مهنية في الهرم السكاني، وبما أن للشباب مشاكل نفسية واجتماعية ترتبط بتعاطيه للمخدرات وبالأمراض النفسية، ترتبط بدورها في العمق بالتكوين الأساسي للهوية النفسية الاجتماعية لديهم، نجد أنفسنا مضطرين أمام ذلك لمعرفة وفهم أسباب ذلك، بغاية تنمية المجتمع بكيفية فعالة وعلمية.
أما عن كوني من جيل الشباب فلا اعتقد ذلك، بل الموضوعية تفرض نوع المشاكل على الباحث، من نوع مشاكل الفئات الاجتماعية المهيمنة في الواقع مثلا، فالغرب مثلا متميز بهرم سكاني يغلب عليه الشيوخ، وهو ما يدعو الباحثين إلى الاهتمام بقضايا الشيخوخة وحالات اكتئاب المسنين بشكل ملحوظ ... الخ.
سـؤال- ما هي انشغالاتك الراهنة؟.
جـواب- داخل هذه الاهتمامات العامة التي ذكرت والتي تتعلق بالبحث في مشكلات الطفولة والشباب، أنا الآن بصدد إعداد دراسة –أتمنى أن تظهر قريبا- حول الفتاة المغربية واتجاهاتها خاصة في المرحلة ما بين 12 و 22 سنة، هذه الفتاة المغربية المتمدرسة لها انشغالاتها كمتدرسة، لكن كيف تتحد علاقتها بوالديها وبالأسرة عامة؟ هل هي علاقة ارتباط أم هي علاقة انفصال؟ ما هو أثر التمدرس على ذلك؟ ما هي نظرة هذه الفتاة للمدرسة ولما تمرره من ثقافة ومعلومات؟ ما علاقة ذلك بتكوين اتجاهاتها وآرائها وبالتالي هويتها النفسية الاجتماعية ما هي طبيعة علاقاتها بزميلاتها أو بما يدعي جماعة الأقران»؟ وما هي خصوصيات هذه الجماعة؟ وأخيرا كيف تنظر الفتاة المغربية للمجتمع؟ ما هي اتجاهاتها نحو المجتمع وما هي نظرتها لذاتها داخل هذا الفضاء العام؟.
وإلى جانب ذلك أشتغل الآن على إخراج مؤلف حول العالم النفساني الفرنسي جاك لاكان، باعتباره باحثا نفسانيا يستفز الجميع، سواء في إعادة بنائه لنظرية التحليل النفسي أوفي استثماره لمجالات متعددة، من لسانيات، وانثروبولوجيا وفلسفات حديثة، مما يجعل الباحث يعيش حالة من الغليان والمخاض العلمي، وفي مستوى ثالث يشغلني بشكل حساس، القيام ببحث صحبة مجموعة من الطلبة الباحثين حول الشباب المنحرف وبوجه خاص الأطفال المشردين في المجتمع، وقد قمنا بوضع الخطاطات الأولى والعمل المباشر على إعداده منذ السنة الماضية.
سـؤال- لعلم النفس جاذبيته عند البعض، في حين هناك من يستفزه هذا «الاسم» وهي في كل الحالات وضعية غير طبيعية للتعامل مع هذا العلم الجديد، كيف ينظر الأستاذ إلى هذه الحالة؟ وما هي نصيحته في ذلك؟.
إنه سؤال صعب ولو بدا بسيطا من حيث المظهر، لأنني من جهة لا أحب كباحث أن أتقدم بوصايا، لأن الوصايا تبقى من اهتمام غير اهتمامي، ولكني فيما يخص البحث والباحثين، أريد أن أطلب من المسؤولين مساعدة الباحثين الشباب على ممارسة البحث، لأنهم يجدون صعوبة كبيرة ومقاومة كبيرة من طرفهم بشكل أو بآخر، كما نطلب منهم أن يتفهموا بأن البحث العلمي من أهم لبنات الدفع بتنمية المجتمع وإعطائه الإشعاع الحضاري اللائق به.        
أما فيما يتعلق بالإنسان العادي، فعلينا أن نتساءل حول كيفية تبليغ هذا العلم للإنسان العادي باعتبارها مهمة كل الباحثين، سواء في تحسيس المواطن بأهمية هذا التخصص أو بالعمل على تبسيط هذه المعرفة، ومساعدتهم على الاستعانة بهذا العلم في حل مشكلاتهم اليومية، وبذلك يمكننا طبعا ضمان إنسان متوازن ومتكامل يساهم بوعي في تنمية هذا المجتمع وتخطى كل العوائق التي نعيشها في ركب التنمية.      




[1] - حول هذا الموضوع ، يمكن الاطلاع على الفصل الخاص بالتنافر المعرفي في هذا الكتاب.

Share this article :

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire